ربع قرنٍ قد مضى !

 

ربع قرنٍ قد مضى !

 

يسألني أحدهم؛ أين مقال الأسبوع يا عبدالله؟ ، ولم يدرِ أنني مشغول البال به منذ أيام ، لماذا انشغلت به؟ ، لأنه مرتبطٌ بي هذه المرة، فلقد أتممت من حياتي ربع قرن ! .. يا له من شعورٌ يثير الرهبة ! ..

عند التفكر قليلاً يتضح مدى قرب حياتي من النهاية، ولا أدري لماذا يفرح المرء في يوم ميلاده!، فالواجب عليه أن يحزن لاقتراب نهايته أكثر وأكثر، لا أن يفرح بها، وكما قال الحسن البصري رحمه الله: "يابن آدم ؛ إنما أنت أيام، فكلما ذهب يومك ذهب بعضك" ..

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم:

"أَعْمَارُ أُمَّتِي مَا بَيْنَ السِّتِّينَ إِلَى السَّبْعِينَ، وَأَقَلُّهُمْ مَنْ يَجُوزُ ذَلِكَ"

ولقد مضى إذن من العمر ثلثه الأول، ثلث الشباب والصبى، ثلث الحنان والرعاية، وابتدأ ثلث الأحمال والأثقال، ثلث الحصاد وجني الثمار .. فمالذي سأجنيه أنا؟ ، ثم إنني أقول كلامي هذا مع التسليم جدلاً بحتمية بلوغ الستين والسبعين، وإلا فالأمانة قد تؤخذ في أي لحظة ! ..




أتفكر فيما مضى من حياتي؛ فلا أجد فيها ما أعزي به نفسي من خير الدنيا أو الآخرة، فلا علم دنيا يشار إلي به بالبنان ، ولا مالٌ أعفُّ به الأهل والإخوان ، ولا علم أو عمل للآخرة إلا وللنفس منه حظ ونصيب بالعجب والرياء ، فأين ذهب عمري؟ .. ثم كيف بعد ذلك تتجرأ النفس الأمارة بالسوء أن تحوز الجنة ؟! (ذاك لعمري في القياس عجيبُ) ..

لو أحصيتُ لكم هنا من نال العلا في ثلث عمره الأول لكانت ورقاتي تناهز بطولها التوراة والإنجيل والزبور والصحف معاً! ، ولن أنال بذلك إلا زيادة الحسرة والنكد، وحسبي اقتداءً بمن أفنى شبابه هباءً مثلي؛ ثم طلب وبذر وحصد في ثلثه الثاني والثالث، ففيهم عزاءٌ وفي قصصهم عبرة، وأخبارهم مشعل نورٍ يهتدي به أمثالي إلى الطريق ، وأن تصل متأخراً خير من أن لا تصل أبداً ..

انظر مثلاً إلى الإمام ابن حزم الأندلسي الذي عاش وتربى غنياً مترفاً، قد ملأ شبابه لهواً ومجوناً ، ولم يبدأ في طلبه للعلم إلا وقد جاوز عمره ستاً وعشرين سنة، فصار ابن حزم بعد ذلك علّامة الأندلس وإمام المغرب الإسلامي، وأسوأ منه حالاً العز بن عبدالسلام، فقد شغلته التجارة طويلاً وأمضى عمره ساعياً في غمرات الدنيا حتى بلغ من العمر 52 سنة ، وبدأ حينئذٍ طلبه للعلم ، فصار بعدها سلطان العلماء وبائع الأمراء العز بن عبدالسلام، ومنهم أيضاً الفضيل بن عياض الذي كان أسوأهم جميعاً حالاً، فقد كان في شبابه صعلوكاً فتاكاً، وقاطع طريق معروف، فتاب بعدها وأصبح عابد الحرمين الفضيل بن عياض .. ومثلهم كثير كزر بن حبيش الراوي، والإمام القفّال شيخ الشافعية ، والحارث بن مسكين شيخ أبي داوود صاحب المسند ، وصالح بن كيسان المعروف ، وابن الفرج المالكي مفتي مصر بعد الليث بن سعد ، وغيرهم من العلماء ممن لم يطلبوا العلم إلا كباراً وقد أفنوا شبابهم هباءً .. ففيهم وأمثالهم عزاءٌ لنا معاشر من فاتهم العلم في الصغر والله المستعان.

ثم أقلب دفاتر ذكرياتي في كل البلاد التي وطئتها ، والناس الذين جربتهم ، والأحداث التي عشتها ، فأرى منها ما يستحق أن أقف عنده ومنها ما لا يستحق الذكر ..

فممن أذكرهم ولا أنساهم أبا هاشم العماني حفظه الله، ذلك الرجل الفاضل الذي لا أنسى فضله ما حييت ، آواني وأطعمني وقد كنت عابر سبيل بكل ما تحمله الكلمة من معنى ..

فلقد نزلت سلطنة عمان لأمضي من خلالها براً إلى اليمن، وأنا لا أعرف عمان ولا أعرف اليمن !، وليس لي أحدٌ أعرفه في عمان إلا الله سبحانه وتعالى ، فنزلت في مطار دبي لأركب منه طائرة أخرى إلى مدينة صلالة العمانية، وأنا في قلق شديد، لا أعلم مالذي يجب علي فعله وإلى أين أذهب عند وصولي للأراضي العمانية ..

فجلست أتفحص من حولي فرأيت رجلاً هادئاً وقوراً في ذلك الزحام وعرفت من هيئته أنه عماني، فسألته بعد أن عرّفته نفسي ووجهتي فأفادني بالأماكن التي يجب علي الذهاب إليها إن أردت المسير إلى اليمن، فشكرته وذهبت ..

وفي الطائرة تعرفت على أحد الإخوة ممن يريد اليمن مثلي، فعقد كل منا عزمه على أن يرافق الآخر في السفر ، وكان ممن يسكن اليمن ، أما أنا فهي زيارتي الأولى لها ..

وصلنا صلالة قبيل المغرب وانطلقنا أنا ورفيقي بالمعلومات التي أفادنا بها أبو هشام حفظه الله لنبحث عن سيارة أو باص أو حتى مكاري أو أي شيء يعبر بنا الحدود إلى اليمن ، فلم نجد أحداً يريد المسير، والرحلات البرية كلها معطلة لسوء الأحوال الجوية ذلك اليوم، فالطريق بين صلالة واليمن منحدر وخطر، والضباب قد غطى الأفق ..

فجنّ علينا الليل وأُسقِط في أيدينا أنا وصاحبي ، فسألنا عن أسعار الفنادق هناك وكانت الأسعار خيالية لمن هم بمثل حالنا ، 20 ريالاً عمانياً لليلة الواحدة ، أي ما يعادل 200 ريال سعودي ! ، وليس معي يومئذ إلا ما يزيد على الألف ريال سعودي بقليل؛ كنت قد استدنتها من أحد الأصدقاء ، ومدة مكوثي في اليمن مجهولة ، فكنت حريصاً على ما معي من المال، فأذكر أننا وقفنا بجوار أحد المساجد نفكر بما الذي يمكننا فعله ..

وفجأة ..!

تقف بجواري سيارة جمس سوداء بطريقة مفزعة !

ما هذا !؟

وسيارات الجمس السوداء مفزعة لكل من عاش في بلاد العرب والله المستعان !

وما أن فتحت النافذة حتى رأيت راكبها؛ وإذا هو أبا هاشم العماني حفظه الله الذي التقيته في مطار دبي ! ..

سألني عما حصل معي ، فأخبرته بما جرى، فقال لي: إذن اركب معي، فأنت ضيفي ! ..

ولم أدر ما الذي قلته له حينئذ من الدهشة ، فأعاد علي: اركب السيارة هيا !! ..

ولم أرد أن أترك رفيقي، فقلت له: وماذا عن صاحبي؟

فقال: أنت وصاحبك ضيفاي الليلة !

فركبنا معه، فأقرانا بأحسن ما يقري ضيفٌ ضيفه، ومكثنا في منزله يوماً وليلة لا يمسنا فيها إلا كل خير .. وفي اليوم التالي كان حفظه الله قد استأجر لنا بمعرفته سيارة تأخذنا إلى مدينة الغيظة عاصمة المهرة في قلب اليمن ، فودعناه وألهجت ألسنتنا له بالدعاء والشكر، وودعته وداعاً لا أدري أيعقبه لقاءٌ أم أن الموعد الجنة ! .. وكنت ولا أزال إلى اليوم متألماً لأنني لا أستطيع أن أرد له صنيعه معي، فالحُر يحفظ ودّ ساعة ، ولا أملك إلا الدعاء له ولأهل بيته ، جزى الله عني أبا هاشم أعظم وأخير الجزاء، وبارك له في ماله وذريته أفضل البركة.

 

موقع مدينة صلالة العمانية

موقع مدينة الغيظة اليمنية


ومما لا أنساه في زيارتي تلك لليمن تحت دوي الرصاص ووطأت العنصرية المقيتة في جنوبها ضد الشماليين "أمثالي"؛ ذلك السائق الأديب ..

كنت عائداً إلى منزلي فركبت أحد سيارات الأجرة ، وشمس مدينة عدن كأنها تشتعل فوق رأسك مباشرة من شدة لهيبها، والسيارة بلا مكيف طبعاً، وأنا لا أمبس بكلمة من شدة كرهي للحر، وفجأة سمعت السائق يتمتم مع نفسه بكلمات غريبة ! ..

أرعيت سمعي أكثر وإذا هو ينشد أبياتاً أعرفها .. يقول:

أَلا لَيتَ شِعري هَل أَبيتَنَّ لَيلَةً ** بِجَنبِ الغَضا أُزجي القَلاصَ النَواجِيا

فَلَيتَ الغَضا لَم يَقطَعِ الرَكبُ عرضه ** وَلَيتَ الغَضا ماشى الرِّكابَ لَيالِيا

 

فتعجبت جداً..!

سائق تاكسي فقير يتقوت على سيارته في اليمن التي زادت الحروب أهلها بؤساً وفقراً؛ يحفظ بكائية مالك بن الريب ، بل وينشدها مترنّماً تحت أشعة الشمس الحارقة !! .. لله درّ ذلك الشعب !.

ثم تابع السائق وأنا منصتٌ لا أتكلم:

وَلَيتَ الغَضا يَومَ اِرتَحلنا تَقاصَرَت ** بِطولِ الغَضا حَتّى أَرى مَن وَرائِيا

لَقَد كانَ في أَهلِ الغَضا لَو دَنا الغَضا ** مَزارٌ وَلَكِنَّ الغَضا لَيسَ دانِيا

 

ثم سكت بعدها كأنه نسي .. فتابعت أنا القصيدة فقلت:

أَلَم تَرَني بِعتُ الضَلالَةَ بِالهُدى ** وَأَصبَحتُ في جَيشِ اِبنِ عَفّانَ غازِيا

وَأَصبَحتُ في أَرضِ الأَعاديِّ بَعدَما ** أرانِيَ عَن أَرضِ الأَعادِيِّ نائِيا

 

ولا تُحسنوا الظن بي وتحسبوا أنني أحفظ القصيدة كاملة، بل لقد كنت أسمعها بين الفينة والأخرى على اليوتيوب لجمال الأبيات وجمال صاحب الصوت الذي أسمع له؛ فحفظت منها مقتطفات وهذه منها؛ وإلا فهي قصيدة طويلة تجاوز أبياتها الستون بيتاً ..

عموماً ما إن أنشدته هذين البيتين حتى التفت إلي وقال بصوت مرتفع:

أتحفظ قصيدة مالك بن الريب؟؟ هل أنت طالب أدب ولغة عربية ؟؟ في أي جامعة تدرس ؟؟ ..

 

فقلت له على رسلك ، لست طالباً ولا أديباً، ولكني أحب أشعار العرب فقط لا أكثر ..

فابتدأ بعدها حديثاً طويلاً يشكو فيه من عزوف الناس عن الأدب العربي وعن تذوق الشعر ، وكيف صار الشباب مهووسون بكل ما هو غربي ، ووو .. واستمرّ في الحديث وأنا مستمع فقط -بسبب الحر- حتى وصلت إلى بيتي، فمددتُ له المال فرفض أن يأخذه مني، فأصررت عليه؛ فحلف أن لا يمسه (رغم فقره وحاجته)، فشكرته ودعوت له ومضى، فجزاه الله خيراً.

 

أما في البحرين فلا أذكر أمراً يستحق الذكر، وأما في ماليزيا فقد صادفت بها الكثير، وتعلمت منها الكثير، ولاقيت الكثير، وما ذلك إلا لمعيشتي بها سنين عديدة ، ولكن يظل أعظم وأرهب ما رأيته فيها هي تلك المرأة التي وقفت بجواري تسأل الشيخ ذاكر نايك عن الإسلام، وكان الشيخ قد جاء إلى جامعتنا ليلقي لنا محاضرة عن القرآن .. فأجابها الشيخ مسترسلاً كعادته وعادة أستاذه من قبله أحمد ديدات رحمه الله ، فما كان منها إلا أن أعلنت إسلامها وشهدت أن لا إله معبود بحق على هذه الأرض إلا الله عز وجل ، وأن محمد بن عبدالله القرشي العربي خاتم الأنبياء والمرسلين ، فقام الجمهور فصفقوا وكبروا وحمدوا الله ، فتعجبت وسررت من المنظر ، فهنيئاً لها النجاة، وهنيئاً للشيخ تأثيره على الناس وأجره عند الله .. وأما في أمريكا فكان ستيف أغرب ما لقيت وأكثر ما أثر بي، وقد ذكرت قصته في مقالي (قصتي مع ستيف بن زئبق).

 

ختاماً ..

يروى أن أعرابياً سأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا رَسولَ اللهِ، أيُّ النَّاسِ خَيرٌ؟ قالَ: مَن طالَ عُمُرُهُ، وحَسُنَ عَمَلُهُ. قالَ: فأيُّ النَّاسِ شَرٌّ؟، قالَ: مَن طالَ عُمُرُهُ، وَساءَ عَمَلُهُ.

 

أسأل الله يطيل أعمارنا على طاعته، ويستعلمنا لخدمة دينه، ويرزقنا حسن الخاتمة، وجميل الأثر، والفوز بالجنة .. قولوا آمين.

 

 

عبدالله الحماطي


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

26 سبتمبر – يوم من أيام الله

102 عام على مذبحة قافلة الحجاج اليمانية

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال