من نحن..؟!

 

من نحن..؟!

    يا الله ما أغرب خِلقتنا..! كم إرادة تتصارع بداخلنا؟ ما مقدار الآلام التي تُخلفها فينا هذه الصراعات؟ كلٌّ منا يخوض معاركه الخاصة التي لا يعلم عنها أحد، فهو يعيش بين شد وجذب، شد العقل وجذب القلب، شد الهوى والنفس وجذب الضمير والإيمان، فصدره أشبه بحلبة للمصارعة، من غلب فيها أرسل أوامره إلى الجوارح والأركان للتنفيذ. فمنا من يريد الخير ويحبه ولكنه لا يفعله، ومنا من لا يريد الشر ولا يحبه ولكنه يفعله! ..

ما أعجب خلقتك أيها الإنسان..!


    كنت منذ زمن طويل أتساءل كلما مرت علي آية ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ هل حبل الوريد إلا قطعة منا، وشيءٌ من كينونتنا! فنحن به وهو بنا، فكيف يقول جل وعلا أنه بعلمه أو بملائكته أقرب إلينا منه؟! إذن فمن نحن بالضبط؟! ما الشيء الذي يدل عليك إن أشرتُ إليه بالتحديد..؟!

بحثت في أشهر كتب المفسرين ولم أجد الإجابة التي تشفيني، فالطبري رحمه الله يقول (وقد اختلف أهل العربية في معنى قوله ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ فقال بعضهم: معناه: نحن أملك به، وأقرب إليه في المقدرة عليه. وقال آخرون: بل معنى ذلك ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ بالعلم بما تُوَسْوس به نفسه.). 

وأما الرازي فأوجز العبارة وقال (بِتَفَرُّدِ قُدْرَتِنا فِيهِ يَجْرِي فِيهِ أمْرُنا كَما يَجْرِي الدَّمُ في عُرُوقِهِ.). 

وأما الطاهر بن عاشور فيستطرد كعادته في تفسيره، ويتكلم في كل شيء إلا ما أبحث عنه، يقول (والقُرْبُ هُنا كِنايَةُ عَنْ إحاطَةِ العِلْمِ بِالحالِ لِأنَّ القُرْبَ يَسْتَلْزِمُ الِاطِّلاعَ، ولَيْسَ هو قُرْبًا بِالمَكانِ بِقَرِينَةِ المُشاهَدَةِ، فَآلَ الكَلامُ إلى التَّشْبِيهِ البَلِيغِ، تَشْبِيهِ مَعْقُولٍ بِمَحْسُوسٍ، وهَذا مِن بِناءِ التَّشْبِيهِ عَلى الكِنايَةِ بِمَنزِلَةِ بِناءِ المَجازِ عَلى المَجازِ. ومِن لَطائِفِ هَذا التَّمْثِيلِ أنَّ حَبْلَ الوَرِيدِ مَعَ قُرْبِهِ لا يَشْعُرُ الإنْسانُ بِقُرْبِهِ لِخَفائِهِ، وكَذَلِكَ قُرْبُ اللَّهِ مِنَ الإنْسانِ بِعِلْمِهِ قُرْبٌ لا يَشْعُرُ بِهِ الإنْسانُ فَلِذَلِكَ اخْتِيرَ تَمْثِيلُ هَذا القُرْبِ بِقُرْبِ حَبْلِ الوَرِيدِ. وبِذَلِكَ فاقَ هَذا التَّشْبِيهُ لِحالَةِ القُرْبِ كُلَّ تَشْبِيهٍ مِن نَوْعِهِ ورَدَ في كَلامِ البُلَغاء، مِثْلَ قَوْلِهِمْ: هو مِنهُ مِقْعَدُ القابِلَةِ ومُعَقَّدَ الإزارِ، وقَوْلُ زُهَيْرٍ:

فَهُنَّ ووادِي الرَّسِّ كاليَدِ لِلْفَمِ

وقَوْلُ حَنْظَلَةَ بْنِ سَيّارٍ وهو حَنْظَلَةُ بْنُ ثَعْلَبَةَ بْنِ سَيّارٍ العِجْلِيِّ مُخَضْرَمٌ:

كُلُّ امْرِئٍ مُصْبِّح في أهْلِهِ ∗∗∗ والمَوْتُ أدْنى مِن شِراكِ نَعْلِهِ). 


وقد وجدت حوماً حول حمى المسألة عند القرطبي وابن القيم رحمه الله، فكأن الأول ألمح إلى حصر ذات الإنسان بالقلب حين قال (وَالْحَبْلُ هُوَ الْوَرِيدُ فَأُضِيفَ إِلَى نَفْسِهِ لِاخْتِلَافِ اللَّفْظَيْنِ. وَقَالَ الْحَسَنُ: الْوَرِيدُ الْوَتِينُ وَهُوَ عِرْقٌ مُعَلَّقٌ بِالْقَلْبِ. وَهَذَا تَمْثِيلٌ لِلْقُرْبِ، أَيْ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ الَّذِي هُوَ مِنْهُ، وَلَيْسَ عَلَى وَجْهِ قُرْبِ الْمَسَافَةِ. وَقِيلَ: أَيْ وَنَحْنُ أَمْلَكُ بِهِ مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ مَعَ اسْتِيلَائِهِ عَلَيْهِ. وَقِيلَ: أَيْ وَنَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ الَّذِي هُوَ مِنْ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ عِرْقٌ يُخَالِطُ الْقَلْبَ، فَعِلْمُ الرَّبِّ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ عِلْمِ الْقَلْبِ، رُوِيَ مَعْنَاهُ عَنْ مُقَاتِلٍ قَالَ: الْوَرِيدُ عِرْقٌ يُخَالِطُ الْقَلْبَ، وَهَذَا الْقُرْبُ قُرْبُ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَأَبْعَاضُ الْإِنْسَانِ يَحْجُبُ البعض البعض ولا يحجب علم الله شي.) فالعلم أضيف إلى القلب ! ، ويؤيده في ذلك تفسيرٌ عجيبٌ لابن القيم يربط فيها مخرج الهمزة في جسم الإنسان بأنها أقرب شيء إلى الإنسان، ولذلك يعبر المرء عن نفسه في اللغة العربية بـ (أنا) ، يقول (﴿ما يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إلاّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ يعني ما يلفظ المتكلم، فدل على أن المتكلم أقرب شيء إلى حبل الوريد، فإذا كان المتكلم على الحقيقة محله هناك، وأردت من الحروف ما يكون عبارة عنه فأولاها بذلك ما كان مخرجه من جهته، وأقرب المواضع إلى محله، وليس إلا الهمزة أو الهاء، والهمزة أحق بالمتكلم لقوتها بالجهر والشدة، وضعف الهاء بالخفاء، فكان ما هو أجهر أقوى وأولى بالتعبير عن اسم المتكلم الذي الكلام صفة له، وهو أحق بالاتصاف به. وأما اتصالها بالهاء مع النون فلما كانت الهمزة بانفرادها لا تكون اسما منفصلا كان أولى ما وصلت به النون أو بحرف المد واللين إذ هي أمهات الزوائد، ولم يمكن حروف المد مع الهمزة لذهابها عند التقاء الساكنين نحو: أنا الرجل.).

أكذبكم القول إن قلت أنني اقتنعت بأن الإنسان هو القلب، فكيف إذن يقف الإنسان حائراً بين عقله وقلبه إذا تعارضت المشاعر والحكمة، والعاطفة والعقل؟! فلو كان هو أحدهما لم يتعب في اختيار الفعل الذي يمليه هو وتجاهل الآخر فهو الفاعل المريد، فلا مناص إذن من القول بأن الإنسان شيء غير ذلك .. بل ربما يكون غير محسوس!

وفي طريق بحثي عن ماهيتي التائهة بين الأطراف المتصارعة في داخلي وجدت تحليلاً ووصفاً جميلاً لآلية خروج الأفعال المرادة إلى حيز التنفيذ كان قد كتبه محمد علي الحوماني في العدد 14 من مجلة الرسالة في عام 1933م فيستهلّ كلامه متسائلاً: (ثم إذا استعرضنا ما تأتيه هذه الإرادة من عمل بعد تنفيذه أو في طريق هذا التنفيذ، نحس بشيء يشعرنا بصحة هذا العمل أو فساده. فما هو إذن ذلك الشيء الذي نشعر به في أنفسنا غير الإرادة؟ هل هو ذاتها، فيصبح كون الشيء ضداً لنفسه أم غيرها فيثبت لدينا أن الحي مركب من إرادة تفعل، ونفس تفعل وتنفعل، وشيء آخر يشرف عليهما فيكوّن من الفعل والانفعال مثلاً أعلى هو ذلك الجزء المنبعث من الحكمة المبدعة الأولى؟. ثم على فرض وجود هذا الثالث، فهل وجد مع النفس كالإرادة ثم نمّاه فعل الإرادة في الخارج إلى حد أصبح معه ذا سلطة عليها في كثير من الأحيان؟ أم هل تكون في النفس من تصادم الإرادات ضرورة بقاء المجموع ليضمن بقاء الفرد فيكون وجوده متأخراً؟).

ثم يجيب الحوماني عن هذه التساؤلات بتحليله فيقول: (وربما كان أصدق تأويل لها هو أن النفس إنما هي الوسيلة الأولى لتنفيذ أوامر الإرادة والأعضاء هي الوسيلة الثانية. على أن العقل هو الحاكم الأعلى المشرف على المجموع، ينتهي الحكم عنده سلبا أو إيجابا. فالإرادة في الطبع تأمر والعقل يوقع والنفس تنفذ مباشرة، في الداخل أو بواسطة الأعضاء في الخارج. والنفس تنفرد دونهما في النوم والجنون والإغماء ونحوها، إذا صح أن لا إرادة للمجنون بناء على إن الإرادة مناط أمر النفس بما يعوزها طبعا لا اجتماعاً، ... فالإرادة لا تحمل الحي إنساناً كان أو حيواناً على أن يلقي بنفسه من شاهق كما يفعله المجنون أحياناً، من أجل ذلك تتحقق فيه النفس دون الإرادة والعقل).

فلعل الأمر كما يقوله الحوماني، وأجدني أميل إليه، فأنت إنسانٌ بنفسك لا بجسدك، أو لنقل؛ نفسٌ مغلفةٌ بالجسد، لا تنفك عنه، فهو وكل ما فيه من أعضاء أدواتٌ لها ..

ومثله قول أبي الفتح البُستي في أبياتٍ له شهيرة من قصيدته، يقول:

أحسِنْ إلـى النّـاسِ تَستَعبِدْ قُلوبَهُم

فطالَمـا استعبدَ الإنسـانَ إحسانُ

يا خادمَ الجسم كم تشقـى بِخدمته

أتطلب الربح فيمـا فيـه خسران

أقبل على النفس واستكمل فضائلها

فأنـت بالنفس لا بالجسم إنسـانُ

 

كل هذه تكهنات وتحليلات وآراء لمحاولة حل اللغز، لنعرف من نحن، لنبصر في أنفسنا كما أمرنا ربنا، وقد تصيب هذه الآراء وقد تُخطئ، والخلاف في المسألة سائغٌ وطبيعي.


فأخبرني أنت يا صديقي .. من تكون؟ من أنت..؟


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

26 سبتمبر – يوم من أيام الله

102 عام على مذبحة قافلة الحجاج اليمانية

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال