موجز حكاية العثمانيين في اليمن (5): المكيدة الخبيثة وحرب يافع وفضيحة الواعظ ومجزرة حصن مُدع
موجز حكاية العثمانيين في اليمن (5):
المكيدة الخبيثة وحرب يافع وفضيحة الواعظ ومجزرة
حصن مُدع
امتاز الإمام القاسم بن محمد عمّن سبقه من الأئمة الأقوياء كالمطهر بن
يحيى بالحكمة في التعامل والتأني في الحركة ومداراة الحلفاء والأنصار، والرحمة
والعفو على المسيء منهم، الأمر الذي ساعد على تأليف قلوب من حوله، ونيل إخلاصهم الكبير
له ولثورته، بينما المطهر مثلاً ورغم القوة التي وصل إليها؛ كان بإمكانه أن ينال
من المكاسب أضعاف ما وصل إليه لولا شخصيته الفظة، فقد كان جباراً قاسياً مع من
يخالفه، ولم تكن أخطاؤه على أعدائه فقط؛ بل ارتكب من الأخطاء ما لا يعد ضد حلفائه
وأنصاره، مما نفّر القلوب عنه وكثّر الأعداء حوله.
ابتهج الوالي حسن باشا بانتصار كتيبة أحمد الواعظ على شيخ الحيمة يوسف
الحماطي ومن معه أيّما ابتهاج، واغتبط بأسره ووصوله إلى صنعاء أيّما اغتباط، وتجمّع
الناس في طرقات صنعاء ليروا هذا الشيخ الأسير الذي كانت أخبار انتصاراته تتوالى عليهم
بشكل سريع وفي مدة وجيزة، وبعد أيام من وصوله أعدمه حسن باشا سلخاً في سجنه، الأمر
الذي فتّ في عضد قوات الإمام، فاستطاع الكيخيا سنان بتحركه السريع واستغلاله لهذا
الانتصار الكبير أن يزعزع قوات الإمام في آنس وذمار والحيمة ويسيطر على مناطق
واسعة فيها، حتى وصل بجيشه إلى عمران التي كانت تحت سيطرة الإمام، وبدأته ضرباته تدك
حصونها ومعاقل قوات الإمام فيها.
وعلى الجبهة الأخرى المشتعلة في منطقة الشرَف كانت قوات الإمام القاسم تتقدم
بشكلٍ كبير، وقد شارفت المنطقة على السقوط في أيديهم، وقائد عسكر العثمانيين فيها هو
الأمير عبدالرحيم الزيدي الموالي لهم، وتحت الضغط الرهيب ونيران جيش الإمام أعلن
الأمير عبدالرحيم استسلامه وخرج وسلم نفسه إلى الإمام، فعفا عنه الإمام وأكرمه غاية
الإكرام، وآثر الإمام الّلين مع ابن عمه، فقام هو بدوره بمبايعة الإمام والدخول في طاعته، ووعد الإمام بالنصرة على العثمانيين، فقبل منه الإمام بيعته بعد أن حلّفه، وجعله فوراً من قادات جيشه
تشريفاً له وحفظاً لمكانته، ولعلمه بكفاءته العسكرية .. ثم جهز له عسكراً يسير به
إلى عمران لينقذ قوات الإماميين فيها من ضربات الكيخيا سنان ومن معه.
تحرك الأمير عبدالرحيم بعسكره إلى عمران وهو يبيّت النية على الغدر بالإمام، وفكّر بمكيدة خبيثة يخدم بها العثمانيين ..
يصفها المؤرخ عيسى بن لطف الله بن الإمام
المطهر في كتابه (روح الروح فيما حدث في اليمن بعد المئة التاسعة من الفتن
والفتوح) بقوله:
"وأمَره (أي الإمام) بالتقدم لحرب السلطنة (العثمانية)، وهو مضمرٌ
في نفسه الميل إلى الأمير والوزير (أي حسن باشا والكيخيا سنان)، مكيدةٌ لو تمت
لعبدالرحيم وحصلت؛ لذهبت دولة الإمام واضمحلّت"
وهي أنه بعد أن عسكر بجيشه في ناحية من نواحي منطقة عمران؛ أرسل لكل الشيوخ
والقادة الكبار في ثورة الإمام القاسم يسألهم المجيء إليه للتشاور والتخطيط حول
كيفية هزيمة الكيخيا سنان القوي والتخلص منه، لترتاح القوات الإمامية من ضرباته ..
وقد أراد الخبيث بفعلته أن يجمعهم كلهم في مكان واحد، ثم يرسل الخبر إلى الكيخيا
سنان ويسأله المجيء إليه بجيشه، فما أن يرى الأمير عبدالرحيم طلائع الجيش العثماني
من بعيد حتى ينسحب بجيشه متعذّراً بتفوق العثمانيين في العدد وخوفه منهم، فيدع بذلك قادة
الإماميين الكبار وشيوخ القبائل حلفاء الإمام ليبيدهم الكيخيا سنان عن بكرة أبيهم،
فتكون ضربة قاصمة لظهر الإمام القاسم فيضطرب أمره ويختل، ولا تقوم له بعدها قائمة.
لكن شاء الله أن تفتضح الخطة بفراسة أحد رجال الإمام يُدعى ضحى، حيث
ذهب إلى كل واحد من الشيوخ والقادة على انفراد وقال لهم فيما قال:
"إن عبدالرحيم مضمرٌ العيب لكم ساتراً للريب، الله الله إن واحد
منكم يأمنه أو يتخذه صديقاً، والله إني أخشى عليكم منه أكثر من خشيتي من الأروام (بالعامية
اليمنية ويقصد بها جمع رومي، ويعني بهم العثمانيين)، لأنه عدو في صورة صديق"
فاستطاع ضحى بفراسته ودهائه أن يقنع القادة والشيوخ بكلامه، فامتنعوا عن الثقة بالأمير عبدالرحيم أو المجيء إليه، وفشلت الخطة ..
ومع تحرك قوات الأمير
عبدالرحيم توجه إليه الكيخيا سنان بجيشه، فلما تراءى الجمعان انضم الأمير عبدالرحيم
ومن معه إلى قوات الكيخيا سنان وخلعوا طاعة الإمام وأبرزوا وجههم الحقيقي، فأكرمهم
الكيخيا سنان وخلع على الأمير عبدالرحيم خلعة حسنة، وكتب بالبشارة إلى الوالي حسن
باشا في صنعاء.
وفي رمضان من نفس السنة (1006هـ) وجّه الكيخيا سنان الأمير عبدالله بن
المطهر الزيدي وقد كان حليفهم، بجيش يُغير به على قوات الأمير أحمد الزيدي المتمركز
في جبل المفلحي في يافع، وكان الكيخيا سنان يهاب قبائل يافع لما علم من شدة بأسهم في الحرب، وخوفه من انتقامهم بعد أن خرّب بلادهم وقتل منهم الكثير يوم دخوله عليهم .. فوصلت أخبار زحف العثمانيين إلى الأمير أحمد فاستصرخ
قبائل يافع فتهافتوا لنجدته من كل صوب يريدون الانتقام من قوات الكيخيا سنان ويثأروا لأنفسهم، والتقى الجيشان العثماني
والتحالف اليافعي الإمامي في قرية زهراء من قرى البيضاء على مشارف يافع، فانهزم العثمانيون
هزيمة منكرة، وغنم الجيش اليافعي الإمامي سلاحهم وعتادهم، وقُتل من العثمانيين وحلفائهم
الكثير، وفر من كُتِب له عمرٌ جديد منهم إلى رداع، ليداووا فيها جراحهم ويعززوا قواتهم.
وفي شوال من نفس السنة أراد الوالي حسن باشا إرسال العساكر جنوباً
لضرب عسكر خولان وقائده الحاج أحمد بن عواض الأسدي التابع لقوات الإمام، ففكر فيمن يُسند إليه هذه المهمة،
فاستقر أمره على قائده الجديد أحمد بن يوسف الواعظ الذي هزم جيش الحيمة وأسر الشيخ
الحماطي، فأيقن أنه الرجل المناسب، وزوده في جيشه بكل ما يحتاج، وأمدّ عسكره
بكتيبة الحجرية، وهي مجموعة من أعيان العسكر العثماني أو ما يُعرف في أيامنا بـ(قوات
الصاعقة)، وكان جيشه خليطٌ بين الجند العثماني والحجرية والعوام المرتزقة اليمنيين، وصفهم عيسى بن لطف الله صاحب (روح الروح) بقوله:
"ولم يكن للواعظ هذا خبرة بالقتال، ولا معرفة بمواطن النزال،
ألّف عسكراً من عيال السوق في صنعاء، ولفّف من لفيف الأمة جمعاً"
فتحرك الواعظ بقواته حتى وصل إلى منطقة أسناف جنوب صنعاء والتقى بجيش الحاج أحمد الإمامي، فماهي إلا مناوشة أو اثنتين حتى ولى الواعظ هارباً ولم يعقّب، تاركًا وراءه رجاله ومدافعه وعتاده..!
صُدم بذلك عسكره وانكسرت نفوسهم، فحصدتهم البنادق الإمامية حصداً، وحزت رؤوسهم سيوف الزيود حزًّا، فقُتل أعيان الجيش العثماني، وأبيد جميع كتيبة الحجرية ولم ينج منهم أحد ..
يتابع صاحب (روح الروح):
"ووصل (الواعظ) إلى صنعاء آخر نهار الجمعة مذموماً مدحوراً، منقوصاً مخسوراً، وعلم الناس أن فعلته بالحماطي اتفاقية (صدفة) وأمور سماوية، وسقط من ذلك اليوم قدره، وخسف بدره"
ومع هذا الانتصار الإمامي واستباحة حصن مُدع وأهله وإبادة الجيش العثماني؛ امتلأ قائد الإماميين الأمير الحسن بالغرور والكِبر والعظمة، وأرسل إلى ابن عمه
الأمير أحمد بن محمد الزيدي الموالي للعثمانيين وواليهم على كوكبان ؛ يتوعّده ويهدده
بأن سيفعل به وبمن معه كما فعل بالعثمانيين وأهالي مُدع، فعقد الأمير أحمد العزم على إيقاف
جيش الحسن بأي طريقة، وجمع معه ما استطاع من العسكر العثماني في كوكبان والتقى بجيش الأمير الحسن في قرية بيت مَنْعَيْن في منطقة المحويت، فما أن سمع الأمير أحمد
طلقات بنادق الإماميين حتى حمل ورجاله عليهم بكل شجاعة فكتب الله للعثمانيين النصر،
وانتقموا لما جرى لإخوتهم عساكر حصن مُدع من إبادة.
سنة مليئة بالمجازر والدماء، ومشهد قتل الأبرياء في حصن مُدع يدمي قلب
الناظر فيه ويفطره، ويستوقف العابر ويحيّره .. وإنا لله وإنا إليه راجعون
"أما والله إن الظلم شؤمٌ
ولا زال المسيء هو الظلومُ
إلى الديّان يوم الدين نمضي
وعند الله تجتمع الخصومُ"
عبدالله
بن علي الحماطي .. في أمان الله
عز الله يعز يافع
ردحذف😂
ردحذف