ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال
مع بداية القرن التاسع عشر اكتملت في الدولة العثمانية أسباب السقوط كالفساد الاداري والتدهور الإقتصادي والجهل والضعف العسكري فأصبحت مسألة سقوط الدولة العثمانية جلية للجميع فلا أدري هل أقول أنه من سوء حظ السلطان عبدالحميد أنه تولى السلطنة في هذه الظروف البائسة أم أنه من حسن حظ المسلمين أن عبدالحميد تولى في هذه الفترة أم أن كلاهما صحيح.
في عام 1876م حرضت صربيا وروسيا الصرب الذين تحت الحكم العثماني ليقوموا بثورة فأخمدها السلطان عبدالحميد وتوغل العثمانيين داخل صربيا حتى اقتربوا من بلغراد عاصمة صربيا فأعلنت روسيا الحرب على الدولة العثمانية بصفتها الحامية للمسيحيين الأرثذوكس فتدخلت القوى الأوروبية لمنع الحرب ليس حباً بالعثمانيين وإنما لئلا تستولي روسيا على الكعكة كاملة, فعقد مؤتمر الترسانة وتمسكت روسيا بشروطها التعجيزية فرفضها عبدالحميد وفشل المؤتمر وأعلنت روسيا وصربيا ورومانيا والبلغار الحرب على العثمانيين فكان السلطان عبدالحميد في موقف لا يحسد عليه فالعثمانيون في الحرب بلا حليف أو صديق وكان عبدالحميد يعرف أن جيشه ضعيف نسبياً أمام الجيش الروسي فكيف وقد تجمعت عدة جيوش وعلاوة على ذلك فالخزينة مثقلة بالديون فلن يستطيع تجهيز الجيش, لكن بعد فشل كل السبل الدبلوماسية فضل عبدالحميد الموت بشرف على التسليم الذليل.
في 24 ابريل 1877م بدأت جيوش الحلفاء بالزحف فأرسلت روسيا أحد جيوشها بقيادة الدوق نيكولاس ومعه 20 ألف مقاتل نحو نهر الدانوب واتجهوا نحو مدينة نيقوبوليس (تقع في جنوب بلغاريا حاليا ) فوصل الخبر لعبدالحميد فجهز 11 ألف مقاتل وجعل عليهم عثمان باشا ذو 45 عاما وأرسلهم سريعاً لينقذوا المدينة من السقوط إلا أن الخبر جاء لعثمان باشا وهو في منتصف الطريق أن المدينة قد سقطت فرجع عثمان بقواته الى مدينة بليفنا وقررالتحصن بها استعداداً لصد الهجوم لأنها المدينة التالية بعد نيقوبوليس.
القائد عثمان نوري باشا
بدأ عثمان باشا باستكمال الدفاعات وفي يوم 19 يوليو ظهر الروس في الأفق واستشعر الجميع بأن الوقت قد حان للدفاع عن الوطن وأصبح قائد الروس الجنرال شولدنر وفور وصوله أمرالمدفعجية بالقصف .. وبعد ساعات أمر جنوده بالهجوم (كانت الحرب قبل ظهور الكلاشينكوف والمدافع الرشاشة مزيجاً بين البنادق والسيوف, وكان على البنادق رؤوس حادة كالخناجر للدفاع عن النفس لأن البنادق القديمة بعد الإطلاق يلزم إعادة تعبئتها برصاصة وسحب زناد الأمان وهي عملية طويلة نسبياً في ساحة المعركة فكان السيف سلاحاً أساسياً حتى ذلك الزمن) واستولوا على الخنادق الأمامية إلا أن عثمان باشا أرسل تعزيزات لدعم الخطوط الأمامية وقاد هجمات مضادة وتمكن من استرجاع الخنادق وقتل من الروس 3000 رجل ومن العثمانيين 2000 شهيد.
بعد عدة أيام وصل الأمير كارول الروماني بالتعزيزات ووصل فيلق روسي فأصبح إجمالي قوات الحلفاء 35 ألف مقاتل و176 مدفع وأرسل السلطان عبدالحميد التعزيزات لعثمان باشا فوصلت قواته الى 22 ألف مقاتل و 58 مدفع وقاد الأمير كارول جيش الحلفاء, وفي يوم 31 يوليو أصدرالأمير الأمر بالهجوم من ثلاث جهات فهاجم الفرسان من الجانبين والمشاة من العمق وكان يوما شديداً حيث كانت المدافع تقصف المدينة وعثمان باشا على فرسه يحرض مقاتليه على الصمود وانجلى الغبارعن ساحة المعركة في أخر اليوم وقد امتلأت بالجثث والأشلاء واستطاع عثمان باشا أن يصد الهجوم وكانت الحصيلة 7300 قتيل من الحلفاء و2000 شهيد عثماني فأصدر السلطان عبدالحميد فرمانا خاصاً في الثناء على عثمان باشا.
الأمير كارول الروماني
استمر الوضع كماهو طيلة شهرأغسطس لكن في أحد أيامه نظم عثمان باشا فرقة من الفرسان أشبه بفرقة إنتحارية ليشنوا هجوماً مفاجئاً على جيش الحلفاء, وفي ساعة غفلة انطلقت صيحات "يا الله" وهجمت الفرقة الإنتحارية على الجيش فتفاجأ الحلفاء بالهجوم بادئ الأمر إلا أنهم استطاعوا أن يصدوا الهجوم ورغم أن الفرقة قتلت 1300 رجل من الحلفاء إلا أنه استشهد منها قرابة 1000 شهيد.
تأزم الوضع جداً على عثمان باشا ومن معه حيث وصل الجنرال الروماني ألكساندرو ومعه 45 ألف مقاتل ووصل القيصر الروسي ألكسندر الثاني بنفسه ليدعم الجند ومعه 80 ألف مقاتل فوصل تعداد جيش الحلفاء الى 150 ألف مقاتل وأرسل السلطان عبدالحميد 13 كتيبة الى عثمان باشا ولم يستطع المساعدة بأكثر من ذلك لأن عليه أن يمد كل جبهات القتال الأخرى الأسوأ حالا من جبهة بليفنا وأصبحت قوات عثمان باشا 48 ألف مقاتل.
القيصر الروسي ألكسندر الثاني
وفي 11 سبتمبر شن الحلفاء هجوماً واسع النطاق بحضور القيصر شخصياً ليشاهدهم ويدعمهم و كان القيصر وشقيقه الدوق نيكولاي يشاهدان المعركة من على تل بمنظار, وتعرض العثمانيين لضغط شديد نظراً لعدم التكافؤ وخسرعثمان باشا عدداً من الخنادق والمقرات الدفاعية واضطروا للتراجع واستمر الهجوم لعدة أيام وحاول عثمان باشا أن يسترد مافقده من مواقع فقاد سلسلة من الهجمات المضادة إلا أن الوضع كان أصعب بكثير ولم يستطع أن يسترد كل ما فقده وكانت حصيلة تلك الهجمات 20 ألف قتيل من الحلفاء و8000 شهيد عثماني.
بعد ذلك توقف الهجوم جزئيا نظراً لكثرة الخسائر وفي هذه الأثناء رجع القيصرإلى روسيا وأرسل رئيس الأركان ليقود المعركة شخصياً وهو الجنرال إدوارد تودلبن وعند وصوله أمر بحصار المدينة من الجهات الأربع وساعده في ذلك كثرة جنده.
بعد أن طوقت المدينة بدأ القصف من كل الجهات وقبل أن يتم التطويق كان عثمان باشا قد علم بالأمر فأرسل فوراً إلى السلطان عبدالحميد يعلمه بتأزم الوضع ويطلب السماح له وللجند بالتراجع وترك بليفنا لترتيب الصفوف ومداواة الجرحى وإعادة تجهيز المقاتلين ثم معاودة القتال إلا أن عبدالحميد رفض طلبه وحثهم على القتال والصبر.
وتوقفت كل الإمدادات عن العثمانيين المحاصرين واستمر القصف عدة أيام وسقط الكثير من الشهداء وخسر عثمان باشا الكثير من الخنادق وتراجعوا كثيراً فأيقن حينها أن الجيش سيهزم فعزم على الهجوم الكامل فإما أن يكسروا الحصار وينتصروا وإما أن يستشهدوا.
وفي ليلة 9 ديسمبر بعد أن هدأت الأجواء نسبياً صاح عثمان باشا وهو على فرسه " بسم الله الرحمن الرحيم " فخرج الجنود العثمانيين من الخنادق ومن خلف أكياس الرمل ومن الحفر ومن كل مكان وركض الجميع مشاةً وفرساناً نحو جيش الحلفاء وتفاجأ خطهم الأمامي وبدؤوا بإطلاق النار إلا أنهم لم يستطيعوا صد الهجوم وكسر خطهم الأول واستولى العثمانيين على مدافعهم وأداروها باتجاهم وبدأوا بالقصف وعثمان باشا على فرسه يتقدم الجند وأطلق الخط الثاني النار إلا أن الهجوم كان كثيفاً فكسروا ولاح النصر في الأفق للعثمانيين فجاءت المساندة من كل الجهات إلى الجهة التي خرج منها عثمان باشا وجاء الأمير كارول ومن معه ليصدوا الهجوم وكان عثمان باشا قد اقتحم الخط الثالث وكانت الرؤية صعبة بسبب دخان المدافع والغبار الصاعد من حوافر الخيل وفوق ذلك ظلمة الليل ووصل الدعم سريعاً وتكاثرعليهم الجند وبدأت الكفة تميل للحلفاء وأصيب عثمان باشا في قدمه وقتلت فرسه وشاع مقتل عثمان باشا ففت ذلك في عضد العثمانيين وبدأوا بالتراجع نحو المدينة, وما إن وصلوا إليها حتى وجدوا فوهات البنادق موجهة نحوهم فقد استولى عليها الحلفاء عند خروجهم منها فوجد العثمانيين نفسهم في العراء بين فكي كماشة فاستسلموا وألقوا أسلحتهم وسلم عثمان باشا سيفه بصفته القائد علامةً على الإستسلام وانتهت المعركة التي دامت 143 يوماً بانتصار الحلفاء ولم يرجع من جيش عثمان باشا الذي كان 48 ألف مقاتل إلى الديار إلا 12 ألف فقط أما الباقي فبين مفقود وشهيد.
كانت حصيلة هجوم العثمانيين الأخير الذي استمر ساعات قليلة أكثرمن 5000 قتيل من الحلفاء و2000 شهيد عثماني, وهنأ قادة جيش الحلفاء عثمان باشا على دفاعه المشرف ورفض عثمان باشا مصافحة قائد الحلفاء وعومل بمنتهى الإحترام نظيراً لما قدمه من قتال مشرف ومن بطولة في دفاعه عن وطنه وقد انتشرت مقاومة عثمان باشا في كل أوروبا وتم ارساله الى روسيا واستقبله القيصر في قصره وقال له تلك الكلمات التي حفظها التاريخ الى يومنا هذا "أهنئك على دفاعك الرائع .. إنه واحد من أفضل الأعمال في التاريخ العسكري" وأعاد له القيصر شخصياً سيفه تكريماً له.
مكث في روسيا أسبوعين حتى شفيت جراحه ثم أطلق سراحه ورجع الى اسطنبول واستقبله السلطان عبدالحميد ولقبه بالغازي وهو لقب يطلقونه على المجاهدين الكبار وقربه عبد الحميد حتى جعله وزير الحربية.
عثمان باشا وزير الحربية
نال الغازي عثمان باشا عدة أوسمه ونياشين عسكرية, وهناك أغنية أو مارش عسكري عثماني في الثناء عليه موجود في اليوتيوب, وسميت باسمه جامعة في تركيا والكثير من الشوارع والمحلات وهناك أيضا الكثير من المدن والبلدات على مستوى العالم سميت باسم بليفنا مثل مدينة بليفنا في ولاية مونتانا في الولايات المتحدة الأمريكية ..
توفي غازي عثمان باشا في عام 1900م ودفن في المقبرة السلطانية بجوار السلطان محمد الفاتح رحمهم الله وأسكنهم فسيح جناته.
تعليقات
إرسال تعليق