برميل خمر يحسم المعركة!.. النيران الصديقة وضياع كل شيء




يسميها البعض بأغبى معركة في التاريخ, والبعض يدرجها على رأس قصص الطرائف العسكرية, إنها معركة كارانسيبيس الشهيرة والإنتصار الإسلامي السهل والكبير,,,
في الحقيقة لقد فوجئت كثيراً عند قراءة أحداثها, بل لم أصدقها باديء الأمر, خصوصاً وأني قرأتها على الفيس بوك, وعند بحثي عنها تبين أنها قصة حقيقية وليست من أكاذيب وسائل التواصل الإجتماعي, فاستلزم الأمر أن أكتب مقالاً عنها لأمتع قراء مدونتي ,,



كانت روسيا القيصرية هي العدو الأزلي للدولة العثمانية, فلا يمر قرن من الزمان حتى تعلن روسيا أو الدولة العثمانية الحرب على الأخرى مرتين أو ثلاث مرات, حتى وصل عدد الحروب بين روسيا القيصرية والدولة العثمانية إلى 12 حرب والحرب العالمية الأولى هي 13 ...



هذا من جهة الحروب .. أما من جهة الإستفزازات, فحدث ولا حرج, حيث لم تنقطع الإستفزازات الروسية للعثمانيين أبداً, بل تعددت أشكالها وأساليبها, كإختراق الحدود البحرية العثمانية, ودعم المتمردين والمطالبين بالإستقلال داخل الدولة العثمانية, ودعم بعض العصابات المسيحية المتعصبة كالعصابات الصربية للفتك بالقرى الإسلامية التابعة للدولة العثمانية, وغيرها الكثير من الأساليب الخبيثة لإجبار الدولة العثمانية على البدء بإعلان الحرب, ثم تنتصر روسيا عليها وتقتطع جزءاً من أرضها نظراً لضعف الدولة العثمانية في سنينها الأخيرة, ومن الأمور التي اشتهر بها السلطان عبدالحميد الثاني في أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن عشرين إلى جانب شهرته بسبب موقفه ضد الإستيطان اليهودي في فلسطين وبناءه لسكة حديد الحجاز, كان رحمه الله سياسي كبير فاستطاع تجنب الدخول في صدام مباشر مع روسيا, فصار يُظهر للروس أنه متحالف مع بريطانيا وألمانيا, ويظهر لبريطانيا أنه متحالف مع روسيا وألمانيا.


السلطان عبدالحميد الثاني رحمه الله

في عام 1787م ذهبت الملكة كاترينا ملكة روسيا على رأس جيشها واحتلت بلاد القرم التابعة للدولة العثمانية, فجنّ جنون السلطان عبدالحميد الأول وأراد إعلان الحرب على الروس إلا أن فرنسا نصحت الدولة العثمانية بالتريث والحل السياسي وأخبرتهم بوجود مؤامرة بين كاترينا ملكة روسيا وجوزيف الثاني إمبراطور النمسا وهي الإتحاد لقتال العثمانيين في حال نشبت حرب جديدة وهما الآن في أتم الإستعداد للقتال, وكانت نصيحة فرنسا بدافع كرهها لروسيا وليس محبتها للعثمانيين,, تريث العثمانيون وبدأت المفاوضات وتدخلت الدول العظمى لحل المسألة بشكل سياسي .. وفي أثناء سير المفاوضات كانت الملكة كاترينا تتجول في بلاد القرم وأمرت برفع رايات مكتوب عليها (الطريق إلى بيزنطة) , أي أن هدفها هو الإستيلاء على القسطنطينية (إسطنبول) عاصمة العثمانيين, وإعادة سيطرت الأرثذوكسية عليها مرة أخرى,,
فكانت هذه الفعلة كالقشة التي قسمت ظهر البعير, حيث فاض الكيل بالسلطان عبدالحميد الأول الذي أُرغم على السكوت من قبل, لكن هذا الإستفزاز مسّ عاصمة "الخلافة" العثمانية, ففضّل عبدالحميد الأول قتال الروس على السكوت المهين, وتوقفت كل المفاوضات, وأيده في ذلك وزيره خوجة يوسف باشا.

كاترينا ملكة روسيا 

السلطان عبدالحميد الأول رحمه الله

الوزير خوجة يوسف باشا في أواخر عمره 

صدع إعلان الحرب العثماني على الروس في كل مكان, ودقت طبول الحرب, وأعلن النفير العام في كل أنحاء الدولة العثمانية .. وبعد عدة أيام فقط أعلنت إمبراطورية النمسا من جهتها الحرب على الدولة العثمانية,, فطلبت الدولة العثمانية من ملك فرنسا لويس السادس عشر أن يشارك في الحرب ويعاونها على عدوهم المشترك روسيا, فأعتذرت فرنسا عن المشاركة لمشاكلها الإقتصادية, وبقيت الدولة العثمانية كالعادة وحيدة في الحرب, وعزم السلطان عبدالحميد الأول على المشاركه بنفسه في القتال وأخذ معه أيضاً وزيره خوجة يوسف باشا لرفع معنويات الجند ولتهييض الناس على النفير للقتال.

جوزيف الثاني إمبراطور النمسا

لويس السادس عشر ملك فرنسا

جهز جوزيف الثاني إمبراطور النمسا العجوز جيشاً جباراً قوامه 245 ألف مقاتل و 36700 حصان, و 898 مدفع ميداني و176 ألف قذيفة و ألف طن من البارود. بالإضافة إلى 800 طن من الدقيق مع 200 رأس بقر يومياً لإطعام هذا الجيش الكبير في الحرب.
كان الإمبراطور جوزيف الثاني طاعناً في السن وفي نفس الوقت كان أبلهاً لا خبرة له في أمور الحرب, لكنه كان يريد أن يصنع لنفسه مجداً كي يذكره الناس بعد موته, فبعد أن فكر ملياً .. اتفق مع الروس على حرب العثمانيين ليسترد بلاد البلقان من الأتراك, فأراد أن يكون هو بنفسه على قيادة الجيش, فحاول الوزراء أن يثنوه عن هذا الأمر إلا أنه أصر على ذلك, وربما كان الذي دفعه لذلك خبر مشاركة السلطان عبدالحميد الأول بنفسه في الحرب فشعر بشيء من الغيرة.



ابتدأ الزحف النمساوي نحو نهر الدانوب .. 245 ألف مقاتل مدججين بالسلاح والمدافع يقودهم رجل عجوز لا خبرة له في الحرب, فكان يتخبط في قراراته لا يدري ما يفعل, فمثلاً .. وصل إلى أحد الحصون المجاورة لبلغراد التي كانت حينئذ في يد العثمانيين, وكانت حامية الحصن ضعيفة, فأمر جوزيف بالإستعداد للهجوم, فنصبت المدافع وعُبئت بالقذائف, وشُحنت البنادق بالبارود, واستعد الجند, وركب الفرسان على خيولهم ,, وفي أثناء إنتظارهم الأمر بالهجوم, يأمر جوزيف الثاني بالإنسحاب .. فتفاجأ الجميع بالأمر .. جيشنا 245 ألف مقاتل ننسحب من حامية صغيرة !!!!؟؟.
رضخ الجميع للأمر, ثم انطلق بهم جوزيف إلى منطقة مليئة بالمستنقعات القذرة, وأمر بأن يقام المعسكر فيها, وكان الباعوض كثيفاً, ورفض جوزيف تغيير المكان, فانتشر بينهم المرض وتسلط الباعوض على الطعام فأصبح الوضع مزرياً بكل ما تحمله الكلمة من معنى!!.. وجوزيف الثاني (يا جبل مايهزك ريح) رافض تماماً لفكرة تغيير المكان,,, فأصيب 172 ألف رجل بالملاريا والديزنتاريا ,, ومات منهم 33 ألف رجل.



كان الجو كئيباً, فالباعوض والمرضى من جهة, والرائحة الكريهة والملل من جهة أخرى, فصار بعض الجند ينشغلون بلعب الورق, في تلك الآونه .. كان الأتراك قد قاموا بتعزيز الحصن المجاور لبلغراد ب9 ألاف مقاتل, وخصص والي الحصن العثماني مكافأة قدرها 10 دوكات ذهبية عن كل رأس نمساوي يُقدم إليه, فوصل الخبر إلى الجيش النمساوي, ففزع الجنود كثيراً, وانتشرت بينهم الشائعات عن فظاعة الأتراك وقسوتهم ودمويتهم فازدادوا رعباً.



على العموم .. واصل الجيش النمساوي تقدمه حتى وصل إلى نهر تيميسول وهو نهر صغير يحيط بمدينة صغيرة اسمها كارانسيبيس (تقع في رومانيا حالياً), عندها وصلت الأخبار إلى الإمبراطور بأن وزير الدولة خوجة يوسف باشا قادم نحو كارانسيبيس بجيش قوامه 70 ألف مقاتل, عندها صاح الإمبراطور مبتهجاً ("هنا يجب أن ننتصر, ففي هذا المكان نفسه حقق الأمير أوجين نصراً ساحقاً على الأتراك, وهذا هو المكان الأفضل لنهزمهم من جديد").. وعمّ التفاؤل الجيش.



في ليلة 19 سبتمبر 1788م عسكر الإمبراطور بجيشه على ضفة نهر تيميسول, وأرسل طليعة من قواته ليعبروا النهر وينظروا أين وصل الجيش التركي ويعودوا سريعاً.. تحركت الطليعة وعبرت النهر وتقدموا حتى وجدوا بالمصادفة عربة للغجر الويلزيين الرحالة, فرحبوا بهم وعرضوا عليهم الشرب والنساء بمبلغ بسيط حيث كان معهم برميلاً من الخمر الهولندي وعدد من الشقراوات .. فوافق الجند على السعر, ونزلوا عن خيولهم, ولعبوا مع الفتيات وشربوا حتى ثملوا تماماً,,
مرت عدة ساعات ولم يرجعوا إلى المعسكر,, فأصيب الإمبراطور بالقلق ولم يعلم المسكين أن جنوده قد انغمسوا في الشرب والعربدة, فأرسل فرقة من المشاة ليتفقدوا الجوار ويعودوا ,,

أكيد مافي صورة !!!

عبر المشاة النهر, واستمروا في السير حتى وجدوا الويلزيين ووجدوا أصدقاءهم, فتقدموا نحوهم وأخبروهم أن الإمبراطور قلقٌ عليهم ثم طلبوا منهم أن يشركوهم ببعض الخمر, فرفض السكارى رفضاً قاطعاً وكانوا في غاية الثمالة ,, ثم أخذت الطليعة البرميل ووضعته خلفها ومنعته عن المشاة, والمشاة غاضبون فهم في نفس الجيش, وارتفعت الأصوات حتى شارفوا على الإشتباك بالأيد, فأطلق أحد الجنود رصاصة في الهواء كي يضبط الموقف ويمنع التقاتل بينهم, إلا أنه نسي أن هؤلاء كانوا ثملين تماماً, فما أن أطلق الرصاصة حتى استلوا سيوفهم وهجموا على المشاة وبدأ القتال, وتطور الأمر فبدأوا بإطلاق النيران بعد أن اختبأوا خلف أحد التلال, فحاول العقلاء من المشاة أن يوقفوا القتال, ولكن السكارى المتمركزين خلف التل لم يتوقفوا عن إطلاق النار, ففعلوا خدعة بسيطة لإخراجهم من مخابئهم .. حيث صرخوا قائلين ,, ترك !!! ترك !!! .. فما أن سمع السكارى كلمة ترك حتى هبّوا مسرعين وامتطوا خيولهم وهربوا نحو النهر خوفاً من مواجهة الأتراك بعد تلك الشائعات عن فظاعتهم ودمويتهم, وكان قادة المشاة الذين عبروا النهر من الألمان حيث أن جيش النمسا كان يتألف من عدة لغات وأعراق كالهنغاريون واللومبارديون والسلوفينيون والنمساويون, فكان القادة الألمان يصيحون للسكارى الفارين  halt .. !! halt !! وتعني باللغة الألمانية توقفوا !! توقفوا !! , فظن السكارى أنهم يقولون الله !! الله !! فظنوا أنهم الأتراك متنكرين فأطلقوا عليهم النار وبدأ تبادل النيران من جديد, وكان الظلام حالكاً فلا يستطيع المرء أن يميز الوجوه جيداً فما بالك بالسكارى !!.

على ضفة النهر الأخرى .. كان الجيش النمساوي يغط في النوم, فاستيقظوا على أصوات إطلاق نار وكان الإطلاق كثيفاً, وصرخات الجرحى تملأ المكان .. فانتشر الذعر بين الجند, ولا يستطيعون تمييز مالذي يجري بسبب الظلام ,, وكان اصطبل الخيول في وسط الجيش, ففزعت الخيول واضطربت من صوت الرصاص في الظلام, فكسرت السياج وهربت من الإصطبل بأقصى سرعتها,, فكانت تمر بين الجند في الظلام فتصدر صوتاً مثل هجوم الخيّالة, فعم الرعب الجميع, وأيقن الجند أن الأتراك قد هاجموا, فأصدر قائد أحد فرق المدفعية الأمر لجنوده بإطلاق النار على ضفة النهر الأخرى, ثم تبعته الفرق الأخرى, فبدأت المدافع تقصف بغزارة الضفة الأخرى في جنح الظلام.




تساقطت القذائف على الجنود في الضفة الأخرى كالمطر .. وفرّوا جميعاً إلى الجهة الأخرى عبر الجسر وهم يصيحون (الأتراك !!!! الأتراك !!! , انج بنفسك, لقد ضاع كل شيء !!!)  ..
فتراجعت الخطوط الأمامية للجيش النمساوي !! .. كل خط يصيح في من يليه من الخطوط بالهروب, فحتى وإن لم يفهم أغلبهم مالذي يجري بالضبط نظراً لحاجز اللغة, لكنهم فهموا بشكل لا يترك مجالاً للشك أن الأتراك قد هاجموا بشراسة ..

هروب هذه الجحافل الضخمة كالسيل البشري بشكل عشوائي, جعل الجيش في حالة فوضى عارمة,, في حين أن الإمبراطور العجوز كان يغط في نوم عميق بسبب الأدوية التي يأخذها لكبر سنه, لكن الفوضى والضوضاء والصراخ وصوت المدافع أيقظته من نومه, فكان يترنح في مشيه وهو بين النائم واليقظان, فساعده حارسه على إمتطاء صهوة جواده لكن الجموع البشرية الهاربة كانت كثيفة فسقط الإمبراطور أرضاً ,, وفوج آخر من الفارّين قادم نحوه في الظلام فحاول الحارس الوقوف أمام الفارّين ليوقفهم عن دهس الإمبراطور, لكن الحارس المسكين سقط هو أرضاً ودهسته الجموع حتى لفظ أنفاسه الأخيرة, أما الإمبراطور فقد استطاع التنحي جانباً ثم أخذه مجموعة من الحراس واستطاعوا الفرار.



يقول المؤرخ إريك دورتشميد في كتابه (دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ) عن هذا الهروب ::. "فرّ سائقوا عربات الأسلحة بالأحصنة, وتبعهم في ذلك سريعاً المدفعجية بالأحصنة التي كانت تجر المدافع, تخلوا عن كل شيء واندفعوا في موكب هارب دهس كل من تجرأ على الوقوف في طريقه, وقُتل جرّاء ذلك عدة ضباط, وتملك الذعر الجميع, فلم يبق أحد لم يركض, يلعن, يصلي, يطلق النار, أو يموت ... وامتلأت طريق الهرب بما تركه الجنود وراءهم من بنادق, خيول, أو خيام, وكل ما يتخلى عنه جيش مندحر,,, وأخيراً وبعد طول عناء استطاع الجنرالات أن يوقفوا ذلك الهروب الجنوني, إن الصدمة التي تلت ذلك الخراب كانت مذهلة, فالجيش أصبح بقايا خراب" .

بعد تلك الحادثة بيومين فقط .. وصل الجيش العثماني بقيادة الوزير خوجة يوسف باشا إلى أرض كارانسيبيس, فوجد 10 ألاف قتيل من جيش النمسا, وألاف البنادق والقذائف ومئات المدافع الضخمة وأطنان من البارود, فكان نصراً عظيماً بلا خسائر, وغنائم كثيرة بلا جهد للعثمانيين.


انتهت تلك المعركة الغريبة بين الجيش النمساوي ونفسه بانتصار العثمانيين, وكان برميل الخمر هو بطل المعركة الذي حسمها سريعاً,,




استمرت الحرب قرابة 5 سنوات بين العثمانيين من جهة وروسيا والنمسا من جهة, ومات أثناء هذه الفترة السلطان عبدالحميد الأول فاعتلى العرش ابن أخيه السلطان سليم الثالث, وأكمل الحرب وشارك بنفسه أيضاً في القتال إقتداءاً بعمه ,, أما الإمبراطور المسكين جوزيف الثاني فقد مات على فراشه أثناء الحرب بسبب كبر سنه وكان قد أوصى أن ينقش على قبره عبارة (هنا يسلقي جوزيف الثاني, الذي فشل في كل ما قام به) .. وكانت أخر عبارة قالها قبل موته (كل ما أتمناه هو سلامٌ دائمٌ في أوروبا).
انتهت الحرب في عام 1792م .. وخسر العثمانيين الحرب في نهاية المطاف.


انتهت مقالتي .. واكتملت حكايتي .. فادعُ لي أُخيّ ولا تنس وصايتي .. هذا والحمدلله رب العالمين

تحياتي..

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

26 سبتمبر – يوم من أيام الله

102 عام على مذبحة قافلة الحجاج اليمانية

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال