حريق موسكو الكبير ..
انشغل العالم أجمع
في الشهر المنصرم بالحدث الكروي الأبرز عالمياً وهو بطولة كأس العالم التي أقيمت
في روسيا .. وهو الحدث الرياضي الأعلى مشاهدة على مستوى العالم .. وقد أقيمت
المباراة النهائية بين المنتخب الفرنسي ونظيره الكرواتي في 15\7\2018م في موسكو
عاصمة روسيا الدولة المستضيفة للبطولة, وانتهت المباراة بتتويج المنتخب الفرنسي بطلاً
لبطولة كأس العالم ..
قد يتساءل البعض هل
هذا المقال رياضي أم تاريخي ؟
وماعلاقة نهائي كأس
العالم في موسكو بالتاريخ الإسلامي ؟
لقد شهدت كأس العالم
الأخيرة ظهوراً هزيلاً لمنتخبات الدول الإسلامية, وخرجوا خروجاً مذلاً من دور
المجموعات وكانوا أول المغادرين من موسكو بعد أن دخلوها قديماً منتصرين ولم
يتركوها حتى قارعت نيرانها عنان السماء ..
في عام 1566م توفي
السلطان الكبير سليمان خان القانوني وترك دولة مترامية الأطراف وخزائن تفيض بالمال
وجيش يهد الجبال, ووصلت الدولة العثمانية في زمنه إلى أوج قوتها وأقصى اتساع لها
منذ نشأتها, وبوفاته انتهى عهد الصعود للدولة العثمانية وبدأ عهد الركود الذي
استمر قرن من الزمن تلاه عهد الإنحدار والسقوط الكبير.
السلطان سليمان خان القانوني
ترك السلطان سليمان
بعده أربعة أبناء وهم محمد وسليم وبايزيد وجهانكير, فتصارعوا بعد وفاة أبيهم على
العرش وابتدأت المؤامرات والدسائس وتدخلت أمهات الإخوة الأربع كلٌ منهن ترغب
بالعرش لإبنها ..
وفي أثناء تلك
الصراعات تمت الإطاحة بالصدر الأعظم للدولة (رئيس الوزراء) إبراهيم باشا الذي كان
رافضاً لتدخل النساء في السياسة وتم إعدامه, وتوفي محمد وجهانكير أثناء الصراع,
فتولى سليم عرش السلطنة فتمرد عليه أخوه بايزيد وأعلن العصيان فألقي القبض عليه
وتم إعدامه هو وأولاده .. وقبض السلطان سليم على العرش واستقرت له الأمور, ومن
المفارقات أن سليم هو أقل إخوته كفاءة إلا أن أمه واسمها روكسلانا أو خُرّم سلطان
وهي يهودية الأصل كانت في منتهى الدهاء, فكانت مهندسة الإعدامات وتولية ابنها
للسلطنة.
خرم سلطان أو روكسلانا
استغل الروس صراع
الأمراء العثمانيين على العرش فأعلن إيفان الرابع الملقب بالرهيب قيصر روسيا الحرب
على الدولة العثمانية وقطع طرق الحجيج واحتل منطقة استراخان وقام بغارات على بلاد
القرم الإسلامية التابعة للدولة العثمانية .
القيصر إيفان الرابع الرهيب
وصلت أخبار الغارات
الروسية إلى السلطان سليم الثاني في اسطنبول, وفي نفس الوقت وصلت العديد من رسائل
الإستغاثة إلى السلطان من سكان بلاد السند وخوارزم بعد أن قطع عليهم الروس طريق
الحجاج يطلبون منه المساعدة.
وُضع السلطان سليم الثاني تحت ضغطٍ شديد ..
والسلطان العثماني يعتبر المسؤول عن جميع المسلمين في العالم ..
فأرسل فوراً إلى الأمير "دولت خيري"
أمير بلاد القرم بأن يردع القيصر الروسي ويبدأ بالإستعداد للقيام بحملة ضخمة لغزو
الروس في عقر دارهم, وتهديد عاصمتهم موسكو تحديداً .. وبجانب ذلك, أرسل السلطان
إلى أمراء التتار المسلمين التابعين للدولة العثمانية بمساندة الأمير دولت خيري
والإنضمام إليه لغزو روسيا ..
فاستنفر دولت خيري القرميين
للحرب, وأخذ أمراء التتار بعد أن استلموا رسائل السلطان بجمع رجالهم استعداداً
للحرب, وأرسل السلطان سليم إلى الأمير دولت خيري كتيبة مدفعية, وفرقة فرسان وأخرى
مشاة عثمانية من الجيش النظامي للدولة العثمانية والكثير من الذخائر والمؤونة
والبارود.
وصلت التعزيزات من السلطان العثماني ووصل أمراء
التتار إلى الأمير دولت خيري وانضموا لجيشه فصار قوامه 120 ألف مقاتل ..
وفي 15\5\1571م انطلق الأمير دولت خيري على رأس جيشه وتوغل في
الأراضي الروسية .. فتفاجأ الروس بالجيش الكبير خصوصاً وأنه قادم من بلاد القرم
التي كانوا يغيرون عليها ولا يجدون بها من يردعهم .. واصطدم الجيش العثماني بحرس
الحدود الروسي ولم يستمر القتال طويلاً حتى انتصر العثمانيين وفرّ الروس من أرض
المعركة ..
تقدم الأمير دولت
خيري بجيشه نحو موسكو, وكان في طريقه منطقة سريوخوف من ضواحي موسكو .. وهي منطقة
دفاعية روسية محصّنة, فلتف عليهم الأمير بجيشه وباغتهم وأمطرتهم المدفعية
العثمانية بالقذائف الثقيلة, وأبلى فرسان التتار بلاءً حسناً وكسروا فرسان الروس
.. فانتصر الجيش الإسلامي إنتصاراً ساحقاً .. وقتل من الروس في معركة سوريوخوف
التي دامت سويعات قليلة أكثر من 8000 جندي روسي, وطارد التتار والقرميين الجنود
الروس الفارّين من أرضية المعركة .. وأمر الأمير دولت خيري بحرق معسكرات الجيش
الروسي وثكناته المتواجدة على أطراف موسكو ..
وبعد فرار الجنود
الروس وحرق معسكراتهم وثكناتهم هبّت رياح شديدة على موسكو .. فانتشرت النار
انتشاراً هائلاً, ومما ساهم في إنتشارها أن بيوت الروس حينئذٍ كان معظمها مصنوع من
الخشب .. فطاولت النيران عنان السماء, وأكلت الأخضر واليابس, كل شيء مشتعل, والناس
في هيجانٍ شديد, يأخذ الرجل أطفاله وامرأته ويهرب بأقصى سرعة تاركاً كل شيء وراءه
.. وليس هناك مهرب إلا البوابة الشمالية .. فالبوابة الجنوبية هي مصدر النيران
وخلف النيران يتمركز الجيش العثماني, أما البوابتان الشرقية والغربية فقد إلتهمتهما
النيران إلتهاماً ولا سبيل إليهما .. فتسابق الناس إلى البوابة الشمالية ولكن الجهة
الشمالية لموسكو كانت "الأحياء العشوائية" حيث الأزقة المتداخلة
والشوارع الضيقة, فحدث حَشر كبير للناس وتدافع وقتال, ومن يسقط منهم لا أمل
له في القيام مرة أخرى, حتى إن الناس قد تدافعوا في ثلاث طبقات فوق رؤوس بعضهم
البعض، الأعلى يدوس على مَن هم تحته، وصيحات الفزع والهلع تدوي المكان فتزيد
القلوب خوفاً وجزعاً مع ما يحدثه مشهد النيران من خلفهم وهي كالموج الهائل من قتل
لأي ذرة شجاعة في القلب ..
كما لجأ بعض الروس إلى الكنائس المبنية
بالحجر لينجوا من النيران، إلا أن الكنائس الحجرية انهارت إما من شدة النيران أو
من تزاحم الناس فيها، في حين حاول بعض الروس الفرار بالقفز في نهر موسكو ولكن
أغلبهم مات غرقاً، كما وصلت النيران إلى قصر الكرملين الشهير وهو قصر الأسرة
الحاكمة وبه عرش القيصر الروسي فانفجر مستودَع الذخيرة الذي في القصر مما أدى إلى
اختناق المختبئين في القبو واحتراق القصر بالكامل في مشهد مروع لا مثيل له.
أما القيصر إيفان الرهيب الذي كان مشهوراً بغروره وتكبره فقد كان من
أوائل الفارّين هو وعائلته حتى قبل إشتعال النيران تاركاً عاصمة بلاده وشعبه
يواجهون المصير المحتوم، حتى إنه قد ترك بعض أفراد أسرته نفسها للأسر أو القتل ..
وما انتهت تلك الليلة حتى أبيد من جيش إيفان النظامي قرابة الأربعين ألف مقاتل
روسي.
يصف الألماني هاينريش فون شتادين الذي كان في خدمة البوليس السرِّي
لإيفان الرهيب حريقَ موسكو في ذلك الوقت مع هجوم الجيش العثماني بقوله:
"المدينة، القصر، قصر أوبريشنينا، والضواحي احترقَت بالكامل في
ست ساعات، كانت الطامَّة الكبرى أن لا أحد يستطيع الهرب، فر الناس إلى الكنائس
الحجرية هربا من النيران، ولكن الكنائس الحجرية انهارت عليهم ، الناس أيضًا قفزوا
في نهر موسكو؛ حيث غرق الكثيرون، انفجرت ذخيرة المدافع في الكرملين وأولئك الذين
اختبؤوا في القبو ماتوا اختناقا، وبعد انتهاء الحريق وخروج القوات الغازية أمر
القيصر بالجثث في الشوارع أن تلقى في النهر، الذي فاض على ضفَّتيه وأغرق أجزاء من
المدينة".
نشرت (Sherwood, james & Co) عام 1825م في لندن كتاب بعنوان "السجل الرهيب" ..
وكان مما ذكر فيه عن هذه الحادثة :
" عدد الأشخاص الذين أحرقتهم النيران كان 200 ألف نسمة, لقد حدث
ذلك بسبب البيوت التي كانت مصنوعة من الخشب, وأغلب الشوارع كانت مرصوصة بالأشجار
الرائعة المتقاربة مع بعضها, وكانت من النباتات الراتنجية والزيتية , مما جعل تلك
النيران يصعب وصفها .. ففي أربع ساعات فقط أصبحت المدينة وضواحيها مشتعلة تماماً "
وكان الذين يزورون المدينة قبل وبعد الحريق يلاحظون إنخفاضًا في عدد
سكان المدينة، أما القيصر إيفان الرهيب فقد تجنَّب المدينة لعدَّة سنوات بعد
الحريق؛ نظرًا لعدم وجود سكن مناسب له ولحاشيته بعد حرق قصر الكرملين.
قصر الكرملين الآن
وجاء في كتاب "تاريخ الدولة العثمانية"؛ لمؤلفه "يلماز
أوزتونا" يصف نتائج هذه المعركة: "دخل الأتراك موسكو وأحرقوا المدينة،
عاد الخان (دولت خيري) إلى قرم مع 150 ألف أسير، وعلى إثر انتصاره حصل على لقب
"تخت آلان" أي كاسب العرش، وأحرق الأتراك الذين دخلوا منتصرين موسكو حتى
سراي الكرملين، وفر معظم الأهالي وأسروا البقية ".
وقد استولى الجيش الإسلامي
على خزانة القيصر الهارب بما فيها من أموال وحلي وذهب وعدداً من الخرائط
الإستراتيجية من ضمن ما استولى عليه من غنائم المدينة ثم عاد الأمير دولت خيري إلى
بلاد القرم ..
وقد أرسل القيصر إيفان عدداً من السفراء السلطان العثماني في اسطنبول
كي يتفاوضوا على الصلح ويوقف جيش دولت خيري .. فما كان من السلطان سليم إلا أن
طردهم جميعاً ..
وقد بارك السلطان سليم الثاني الأمير دولت خيري على هذه الانتصارات
الباهرة وأرسل له سيفاً مرصعاً وخلعةً وكتاباً سلطانياً .. ومن الجدير بالذكر أن
موسكو لم تحرق بالكامل إلا مرتين في تاريخها, الأولى كانت من الأمير دولت خيري عام
1571م, والثانية كانت بعد أن انتصر الفرنسيون بقيادة نابليون بونابارت انتصاراً
ساحقاً على الروس في معركة بورودينو عام 1812م, فأمر نابليون جنوده بحرق موسكو.
بهذا تكون حكايتي قد انتهت .. وبعد قليل ستتوقف أناملي عن الكتابة ..
فلا تتوقف شفاهك قبل أن تدعو لكاتب المقال .. دمتم في رعاية الله.
تعليقات
إرسال تعليق