تأثير هوثورن وقلب المؤمن ..!

 تأثير هوثورن وقلب المؤمن ..!

 

كنت قد أزمعت أمري[1] منذ أيامٍ على العودة لكتابة المقالات، لكنني كنت دائماً ما أخسر معاركي مع ذلك العدو اللدود والداء العضال المدعو "التسويف"، فعقدت العزم هذه الليلة على أن أسوّد ورقتي، وها هي الآن أناملي تنسج ما يجول في خاطري لتصنع ثوباً أنيقاً (أو هكذا أظنه) يسر الناظرين.

أستميح قرائي الأعزاء عذراً بأن أتكلم عن نفسي قليلاً، رغم أنني أعلم أن استخدام كلمة "أنا" بكثرة كريهٌ على المسامع، وثقيلٌ على النفوس، ولكن لا مناص من ذلك، فهذا هو حال الأديب الكاتب؛ يكتب ما يخالجه من شعور وما يهيج داخله من عواطف فيقرأها القارئ ويتعجب، يظنها كأنما كُتِبت وصفاً لما بداخله هو لا ما بداخل الكاتب، فيُحس بطمأنينة عجيبة تسري في جسده وتمر على قلبه فتحط فيه رحالها، أشبه بتلك الراحة التي يشعر بها من بثّ حزنه وألمه إلى حبيب أو صديق ليقاسمه ما به؛ وقد قال الشاعر[2]:

‏ولابُدَّ من شَكْوَى إِلى ذي مُروءَةٍ  * * *  يُوَاسِيكَ أَوْ يُسْلِيكَ أو يَتَوَجَّعُ

وهذا دأب الأديب وقدره، أن يكون كتاباً مفتوحاً يقرؤه الجميع، وسِيفُ بحرٍ[3] يغشاه كلّ من أراد برّاً، فعلي إذن الكتابة، وعليكم التأمل والقراءة.

 

في خضم سيري لنيل تلك الورقة اللعينة التي ستشهد لي أمام الخلائق (وللورقة من اسمها نصيب) بأنني حاملٌ لدرجة الماجستير؛ مرّ بي مصطلح "تأثير هوثورن"، ومع قراءتي عن ماهيّته وكُنهِه أُعجبت به، وشاركته كعادتي مع صديقي محسن؛ توأمي وشريكي في كل ما يتعلق بالكتب والعلم، فلفت نظري لأمر لم أكن قد أدركته، وهي الفكرة التي سرقتها منه (من باب الميانة[4] بيننا والألفة) وستتخلل هذه السطور.

 

في عام ١٩٢٧م قام العالم إيلتون مايو[5] بتجربة فريدة على عمال مصنع هوثورن في مدينة شيكاغو الأمريكية، وتهدف التجربة إلى دراسة التأثير الذي يمكن أن تسببه زيادة الإضاءة في المكان على سلوك العمال وإنتاجيتهم ..



 البروفيسور إيلتون مايو


وفي نهاية التجربة وبعد زيادة الإضاءة وتخفيضها بشكل متزامن ومتكرر كانت وتيرة الإنتاج في المصنع تزداد بغض النظر عن حالة الإضاءة، وكان الأمر في غاية الغرابة ..!

وبعد قليلٍ من التحقيق في الأمر اكتشف إيلتون أن العمال قد علموا مسبقاً أنهم جزءٌ من تجربةٍ ما، فأصبحوا في غاية الحماسة[6] والسعادة لِما أعطوا من الاهتمام والمساحة التي استطاعوا أن يُعبّروا من خلالها عما يراودهم من أفكار أو يخالجهم من شعور أثناء التجربة، فكان إحساس الرضا النابع من الشعور بالقيمة الذاتية ينعكس على عملهم وكفاءتهم فازدادت لذلك إنتاجية المصنع بشكل كبير.

 

لفت هذا الأمر إيلتون إلى أهمية الحالة النفسية للفرد ومدى انعكاسها على واقعه، فكلما شعر بالاهتمام والتقدير والقيمة الذاتية وأنه المركَز أو المدار لأمر ما كلما أصبح أكثر إتقاناً لما بين يديه، وكانت هذه التجربة هي حجر الأساس لما بات يُعرف اليوم بـ "علم النفس الصناعي".

 

بعضكم الآن يقول متذمّراً؛ ما بال هذا المعتوه قد جمعنا ليُملي علينا درساً لا فائدة منه لنا نحن معشر المفلسين ..!؟

أقول ..

إن تأثير هوثورن لا يقتصر على الموظفين أو أرباب الأعمال أصحاب الملايين المُمليَنة أو الألوف المُؤلفة، بل هو أمرٌ مغروسٌ في صميم قلب المؤمن الذي بلغ من الإيمان مبلغاً عظيماً ..

تأثير هوثورن هو الذي دفع العابد ليتعبد، والناسك ليتنسك، والراهب ليترهبن، والمُحسن ليُحسن ..

تأثير هوثورن أمرٌ من صميم ديننا، وجزء لا يتجزأ من قلب المؤمن الصادق ..

 

وقبل أن يصيح صائحٌ :

"أنت تؤسلِم وتُشرّق ما يأتي لنا من الغرب..!"،

دعوني أكمل حديثي أرجوكم ..

 

ماذا لو استشعر المسلم مراقبة الله له، واهتمام الملَكَين الذَين عن يمينه وشماله بكل ما يعمل..!؟

ما ذا لو تأمل وأدرك أن هذا الكون بعظمته قد خلقه الله من أجله ليستخلفه في الأرض فينظر كيف يعمل..!؟

ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم أن الإحسان هو أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فتوقن بقلبك تمام اليقين أنه يراك، فلماذا إذن لا ينعكس إيمان كثير من المسلمين على معاملاتهم وعبادتهم وجميع حياتهم ..؟

 

إن استشعار معيّة الله سبحانه وتعالى، ومراقبته لنا هو وملائكته؛ كفيلةٌ بأن تكون دافعاً كبيراً للعمل والعبادة والسعي إلى مرضاته جلّ وعلا، ولأزّنا[7] ذلك الشعور الذي يخبرنا عن مركزيّتنا أزّاً نحو التضحية والاجتهاد، ولكننا نقول بألسنتنا ما نظن أنه في قلوبنا، فنُمنّي أنفسنا بأفضليتنا بما نعتقده عن أنفسنا لا بما يكون من سلوكنا وتعاملنا، ولو سألت أحدهم عن أهل النار سيقول لك أبو جهل وأبو لهب وفرعون، وسيضع معهم من يعرف من المجرمين والبلاطجة[8] الذين في قريته أو مدينته، وإن سألته عن نفسه سيخبرك أنه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، ولو أبصرت عمله لوجدته مقصّراً خاملاً متساهلاً في الواجبات فضلاً عن إتيانه للمحرمات ..!

إن الاعتقاد المجرّد من العمل لو كان ينفع أحداً لنفع إبليس حين قال معتقداً بأفضليته على آدم (أنا خيرٌ منه) ورفض أن يسجد له، أو اليهود والنصارى الذين قالوا (نحن أبناء الله وأحباؤه) واستمروا باجتراح السيئات وهتك الحرمات فعذبهم الله.

 

اعلموا رحمكم الله أن السلوك مرآة الجوهر، وقد وُرد في الأثر عن سلمان الفارسي رضي الله عنه: (إن لكل امرئٍ جُوّانيّاً وبرّانيّاً [9]، فمن يُصلح جُوّانيّه يُصلح الله برّانيّه، ومن يُفسد جُوّانيّه يُفسد الله برّانيّه)[10]، فأعمالك مؤشرٌ لصدق إيمانك، فاستشعر مراقبة الله لك، وداوم على تذكير نفسك باصطفائك على العالمين، والكون كله مسخر لك، فهذا من أكبر المحفزات لك على العمل.

 

أعاننا الله وإياكم وسدد خطانا وخطاكم.

 

عبدالله الحماطي






[1]  أزمع الأمرَ/ أزمع بالأمر/ أزمع على الأمر: عزم عليه وثبت وجدّ في إمضائه

[2]  الشاعر هو بشار بن برد

[3] سِيف البحر: بكسر السين، وهو ساحل البحر

[4]  الميانة: من العامي السعودي، وتعني سقط الكلفة، ولم أجد لها أصلاً في المعجم، ولعل أصلها من الأمانة

[5]  إيلتون مايو (1880م – 1949م) : عالم نفس واجتماع أسترالي، وبروفيسور في جامعة هارفارد، ويعتبر مؤسس مدرسة العلاقة الإنسانية في مجال الإدارة

[6]  الأصل والصواب هو "حماسة" وليس "حماس"، والعرب تقول شعر الحماسة، ومنه ديوان الحماسة لأبي تمام

[7] ومنه قول الله تعالى: (ألم تر أنّا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزّهم أزّاً)

[8]  من العامي الحجازي، أصلها تركي، ومفردها بلطجي، وهي في الأصل كلمتين "بلطة" و "جي" أي؛ حامل البلطة، ويقصد بها قطاع الطرق والقتلة والمجرمين

[9] جُوّانيّاً وبرّانيّاً: من العامي الفصيح، وتعني داخله وخارجه

[10] رواه ابن المبارك – كتاب الزهد

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

26 سبتمبر – يوم من أيام الله

102 عام على مذبحة قافلة الحجاج اليمانية

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال