القيم الذاتية والمناطقة والمساواة وأشياءٌ أُخَر


القيم الذاتية والمناطقة والمساواة وأشياءٌ أُخَر


كنت قد عقدت العزم على نشر المقالات بشكلٍ منتظم، وستُبدي الأثاليث[1] لنا (وأنا معكم) أَصَدَقَ هذا العزم أم كان من الكاذبين ..

وأسأل الله جل وعلا أن يعينني على أن أُرغِم نفسي وأروضها فتطيعني هي؛ وليس العكس،

وقد صدق الشاعر[2] حين يقول:

والنفس كالطفل إن تُهمِله شبَّ على ** حُب الرّضَاع، وإن تَفطِمه ينفطِمِ

 

منذ أيام؛ مررتُ ببصري على وُرَيقات[3] قد خُطّ فيها أسطراً عن ما يعرف اليوم بـ"القيم الذاتية"، وهذا المصطلح أصبح يرِدُ في كثير من علوم العصر كالإدارة والاجتماع والنفس وغيرها، وتكمن أهميته في قدرته على السيطرة على سلوك الإنسان وتوجيهه.

والقيمة لغةً تتضمن معانٍ عدة، مدارها حول الثمن والقدرة والأهمية والقَدر، وهذه القيم في حقيقتها هي أهدافٌ نطمح إليها فنسير من أجلها وفق ما تقتضيه طرقها، وبحسب سمو هذه الأهداف يتبين لنا معنى وجودنا في هذه الحياة ويزداد تقديرنا لأنفسنا، فطالب العلم مثلاً يبذل قصارى جهده في سبيل تحصيله وهو يشعر أن قيمته هي فيما يسعى إليه وفيما يتطلع له عند ربه، فتظله سحائب سلامٍ داخلي تُنزل عليه قطرات رضا لتغسل قلبه وتغنيه عما في أيدي غيره، والطبيب إذا استشعر معنى وجوده وسمو عمله الذي يقوم به أدرك قيمته في هذه الدنيا وغمره شعور بالطمأنينة والامتنان .. 

إن اضطراب القيم لدينا يجعلنا كناقةٍ عشواء[4] سائمة[5]، فلا ندري أين نذهب ولا أين نخبط[6]، حيث لا حدود تحدّنا ولا دليل يدلّنا ولا مُوجّه يوجّهنا.

إن قيمة الإنسان تكون بمدى موافقة عمله للأُطر التي أطّرها لنا ربنا سبحانه وتعالى، فخالق الناس أدرى بما يصلح للناس، وقد فصل لنا ما على الرجل وما على المرأة، فعمل المرأة مثلاً بدون حاجة ومزاحمتها للرجال فيما هو من اختصاصهم يخالف الكيفية التي ميّز الله بها الأنثى عن الذكر، فليست المساواة دائماً حق، بل هناك فرق جليٌّ بين العدل والمساواة، فمساواتك بين الرجل والمرأة هو ظلم للاثنين معاً، فلا تكون المساواة حقٌ إلا بين متماثلين، أما الذكر والأنثى فهما متشابهين في صفات ومختلفين في أخرى، ومن أحق الحق أن تعطي لكل منهما ما يتناسب مع صفاته، فحينئذٍ يكون تمام العدل والإنصاف.

إن من القيم الذاتية مبادئٌ مشتركة بين الذكر والأنثى، حضنا سبحانه وتعالى على الاتزام بها، ووعد من يعمل بها ولها أن يحوز المكانة الرفيعة في الدنيا ولا يُعدم الأجر في الآخرة؛ فمنها الصدق مهما كانت الظروف، والأمانة والوفاء، وإتقان العمل والتفاني فيه، وطلب العلم أنّى كان، والإقبال على كتاب الله؛ حيث قال النبي ﷺ (إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين)[7]، وهناك مبادئٌ مختصة بالرجل دون الأنثى، كالثبات عند المُلمّات، وقوامته على أهله، وأن يعفّ مَن يعيلهم لئلا يَندُروا[8] ويسألوا الناس، وأن يُظهر أبوّته بتأديبه لبنيه، وأن ينصح إخوته وغيرها، وأما المرأة فبُحسن تربيتها لبنيها وتعليمهم، واحتساب الأجر في طاعتها لزوجها فتكون له سكناً وحضناً دافئاً.

الخلاصة .. إن القيم الذاتية هي الأهداف التي نطمح لها والمبادئ التي نؤمن بها والحدود والقوانين الشخصية التي تسيطر على أفكارنا ومعتقداتنا وتؤثر بشكل مباشر على سلوكنا، وإذا اضطربت هذه القيم أو غُبِشَ[9] عنها تظهر انعكاساتها على صاحبها بصورة اكتئاب وبحثٍ عن هوية، فأما الاكتئاب فمعروف، وأما البحث عن الهوية فأظهر الأمثلة عليه ما نراه من فتياتنا هذه الأيام وهنّ ينتزعن من الرجل هويّته، ويحاولن تركيبها فيهنّ بالقوة؛ نظراً لما أيدي الرجل وغفلة عما في أيديهن وبغياً وظلماً على أنفسهن.

يا للمسكينة ..!

تريد أن تملأ فراغاً غريباً تشعر به في داخلها، ولو سألتها عن ماهيّته لهزّت لك كتفيها وانصرفت.

إن قيمة الفتاة التي صيّرها الله عليها هي أن تكون أمّاً عظيمة، ومعلمةً قديرة، وأن تكون سكناً وملاذاً وملجأ آمناً لزوجها وبنيها، فعلاقة المرأة بالرجل ليست علاقة نديّة؛ بل علاقة تكاملية يُقوّم كل طرفٍ فيها ما اعوجّ من الطرف الآخر. 

ومن الأمور العجيبة في عصر العجائب هذا الذي نعيش فيه هو أن بعض الناس يتخذون من قيمهم أصناماً للتبجيل والتعظيم فقط، فيحبون قيمهم التي يؤمنون بها أكثر من طبيعتهم التي هم عليها، لأنهم ينظرون إليها كنسخة مثالية منهم، فيتمنون لو يستطيعوا أن يقلّلوا الفجوة بين ماهم عليه وبين قيمهم التي يؤمنون بها، لكن هيهات..! فمجرد المحبة لا تنعكس على السلوك، بل يجب أن يصاحبها عزمٌ على العمل بمقتضى هذه القيم.

ولعلي بن أبي طالب رضي الله عنه أبياتاً شهيرة منسوبة إليه يقول فيها :

وقيمة كل امرئٍ ما كان يُحْسنهُ ** والجاهلون لأهل العلم أعداءُ

 

ويؤكد الخليل بن أحمد الفراهيدي على ما قاله علي رضي الله عنه فيقول :

 قيمة المرء قدْرُ ما يُحسنُ الـمرْ ** ءُ قضاءٌ من الإمامِ عليِّ

لا يكون العَلِيُّ مثلَ الدنِيِّ ** لا ولا ذو الذكاء مثلَ الغبيِّ

 

فيأتي بعد ذلك الشاعر العباسي أبو الحسن ابن طَباطَبا ليؤكد أن قيمة الإنسان هي ما يُحسنه وما خُلق له ؛ 

فيقول :

 يلوم علي أن رحت للعلم طالبًا ** أجمع من عند الرواة فنونَهُ

فيا لائمي دعني أغالي بقيمتي ** فقيمة كل الناس ما يحسنونَهُ

 

ويظل المعنى يتردد على مر السنين فيأتي أبو الفتح البُستي فيقول :

 إن كنتَ تطمع في العلياء تخطبُها ** وتبتغي منزل التكريم تسكنُهُ

لا تُخلِ نفسك من علمٍ تسود به ** فقدر كل امرئ ما كان يُحسنُهُ

 

 وبعد استطرادنا في الكلام عن القيم يجرنا الحديث إلى الشق الثاني منها وهو كلمة "الذات"، وهي بمعناها الحالي تعني النفس، وأجمع جمهور علماء اللغة أنها ليس لها أصل بهذا المعنى في اللغة العربية، لكن تمنطُق المُتمنطقين وتفلسُف المُتفلسفين لوّث لغتنا العربية بالكثير من المفردات التي تم استنباطها من العلوم الإغريقية والفارسية، أو بتحميل المفردات العربية معانٍ ليست لها؛ كما هو حالنا الآن مع كلمة "الذات" ..



ومن معاني "الذات" الأصلية؛ أن تكون مؤنث لكلمة (ذو)؛ أي بمعنى صاحبة، كقولنا مثلاً (تزوج فلان امرأة ذات مال)، أو كقول بعض الصحابة رضوان الله عليهم لرسول الله ﷺ (اجعل لنا ذات أنواط). وأن تكون ظرفية؛ كقولنا (التقيت فلان ذات يوم)، أو قوله تعالى (ونقلّبهم ذات اليمين وذات الشمال). وأن تكون بمعنى الطاعة أو السبيل؛ كقول خُبيب بن عدي رضي الله عنه قُبيل مقتله:

وذلك في ذات الإله وإن يشأ ** يبارك على أوصال شِلوٍ[10] ممزّعِ[11]


وأن تكون أيضاً بمعنى "الذي / التي" في لغة قبيلة طيء، 

كقول الشاعر[12]:

ذاكَ خَلِيلي وذُو يواصلني ** يَرْمي ورائِي بأمْسَهْم وأمسلمة[13]

أي؛ ذاك خليلي والذي يواصلني


وقول الآخر[14]:

فإنَّ الماءَ ماءُ أَبي وجَدّي ** وبِئْري ذُو حَفَرْتُ وذو طَوَيْتُ

أي؛ وبئري الذي حفرتُ والذي طويتُ

وكقولهم (حليمة السعدية ذات أرضعت النبي ﷺ)، أي؛ التي أرضعت النبي ﷺ.


وقد فرّق المناطقة بين الأخلاق والقيم، فجعلوا الأخلاق تتضمن الشمائل السيئة والحسنة، أما القيم فتتضمن الحسنة فقط، وللمناطقة باعٌ طويل في التفريق بين المترادفات، كقيامهم مثلاً بالتفريق بين الكل والكلي والجزء والجزئي، فالكل عندهم هو ما يُقبل حكمه على الجميع كمجموعة ولا يُقبل حكمه على الأفراد كأفراد، كقولنا أزاحت القبيلة الصخرة عن مكانها، فالقبيلة بأكملها أزاحتها كمجموعة لكن لا يستطيع فرد واحد من القبيلة أن يزيحها بمفرده، أما الكلي فهو ما يُقبل حكمه على الجميع وعلى الأفراد، كقوله سبحانه وتعالى (كل من عليها فان)، فكل البشر سيفنيهم الموت كمجموعة، وأيضاً سيموت كل فرد منهم بمفرده، وأما الجزئي فهو ما يُقبل حكمه على البعض دون البعض، كقولنا بعض الورد أحمر، فهذا الحكم ينطبق على بعض الورد دون بعض، فالورد منه الأحمر والأصفر والأبيض وغيره، وأما الجزء فهو ما يتكون منه الكل.

 

أسمع قائلاً الآن يقول والشتائم على طرف لسانه ستنطلق نحوي في أي لحظة؛

"متى ستنتهي ؟؟ فقد صدعت رؤوسنا بكلام المناطقة ..!"

 

في الختام أقول؛

لقد خلقنا سبحانه تعالى بخصائص معلومة ومحددة لكل منا، وهي الفطرة التي فطرنا عليها، وتُشكّل هذه الخصائص معنى كينونتنا[15]، فأي محاولة لطمس هذه الخصائص أو استبدالها هي محاولات بائسة ترتدّ عاقبتها على صاحبها في المقام الأول، وعلى المجتمع ككل في المقام الثاني، فهي وإن بدت للوهلة الأولى أنها خللٌ قاصر على صاحبه إلا أنها متعدية إلى المجتمع، فالله الله في أبنائكم وأهليكم، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته.

 

أسأل الله أن يعيننا على ما ينفعنا، وأن يجنبنا ما فيه شقاؤنا، وأن يهدي شباب وفتيات المسلمين

ورحم الله امرئ قال آمين.

 

 

عبدالله الحماطي



[1]  جمع؛ ومفرده ثلاثاء

[2]  هو محمد بن سعيد البوصيري

[3]  تصغير ورقات

[4]  عشواء مؤنث أعشى، وتعني الَّذي يسوء بصرُه باللَّيل والنَّهار أو يُبصر بالنَّهار ولا يُبصر باللَّيل

[5]  السائمة؛ هي كلّ ماشية تُرْسَل للرَّعْي ولا تُعْلَف

[6]  من العاميّ الفصيح، وتعني الضرب والتربيت

[7]  صحيح مسلم

[8]  من العامي الحجازي والحضرمي الفصيح، وتعني الخروج، ومنه قول السفاح التغلبي لقومه بعد أن أراق قِرب قومه: (اندروا إلى ماء الكلاب)، وماء الكلاب هو موضع وقعت فيه معركة بين بني تغلب وبكر بن وائل في الجاهلية.

[9]  الغبش يراد به الظلمة والعتمة، وهو أيضاً ضد الصفاء والشفافية

[10] مفرد أشلاء، وتعني قطعة من اللحم

[11]  أي؛ مقطّع

[12]  البيت لجبير بن غنمة

[13]  تستبدل طيء في لغتها أل التعريف بالأف والميم كقبائل تهامة اليمن، فقوله بأمسَهَم يعني بالسهم، وأمسلمة تعني؛ والسلمة، وهي الحجارة الصغيرة

[14]   البيت لسنان بن الفحل

[15]  الكينونة أي؛ الوجود


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال

القاتل الوسيم .. ورسالة للآباء !

يا أسوياء العالم اتحدوا..!