موت وسط المواخير !

موت وسط المواخير..!


أرأيتم لو أن رجلاً قام في يوم عرس أحدهم وأخذ المايكروفون[1] وألقى على الناس موعظة عن الموت؛ أفيسلم من ألسنتهم؟ هذا إن أكمل حديثه أصلاً؛ ولم ينتزع منه المايكروفون أحد الحاضرين..!

فما ظنكم لو أن هذا الزوج في ليلته الأولى مع زوجته وَعَظَها عن الموت؛ ألن تشك هذه الزوجة المسكينة في سلامة عقل هذا الذي اختارته زوجاً لها..؟

الجواب بسيط ..

فهل هناك أنكى على النفس من ذكر الموت؟! أكثر تنغيصاً لها من الموت..؟!

لا زال الموت هو الواعظ الأشد رغم صمته؛ فما من سعادة إلا وينهيها ، ولا لذة إلا ويهدمها ، ولا متعة إلا ويسلبها ..




أعلم أني قد دخلت عليكم فجأة بدون تقديم أو تمهيد ، أو حتى اعتذار عن هذا الغياب الطويل ، فأرجو المعذرة منكم ، ولكن الأمر استوقفني ولم أستطع أن أُمِرّه قبل أن أسطّره لكم لأنظر ماذا تقولون ..

كما يعلم المقربون فقد انتقلت للعيش في الولايات المتحدة الأمريكية، مفارقاً بلاد العرب والمسلمين كارهاً والله لا راغباً، منعنا دفترٌ[2] صغير يدعى "جواز السفر" من أن نعيش بكرامة ، حيث صار هذا الدفتر هو سبب التفاضل بين الناس والتمايز بينهم ؛ ولم يعد لا للعلم ولا للدين ولا حتى لأخوة العرق قدرٌ والله المستعان .. لا أريد الإطالة في موضوع هذا الدفتر ولا الحدود الوضعية التي خطها المستعمر لنا ، فإني مفردٌ لها صفحات وصفحات قريباً إن شاء الله ..

عموماً استقر بي المقام في مدينة دالاس ، إحدى كبريات مدن الجنوب الأمريكي وحواضره ، ورزقني الله فيها بعمل قريب من بيتي ، وبيني وبين عملي شارع طويل من أسوأ شوارع المدينة ، وأعني بالسوء هنا السوء الأخلاقي لا العمراني .. فهو عبارة عن سلسلة من المواخير وحوانيت الخمر المتراصة يمنة ويسرة ، وابتلاني الله بالمشي فيه يومياً صباحاً ومساء من و إلى العمل ، ففي الصباح لا تسمع فيه إلا همساً ، وفي المساء ترى الناس سكارى صاخبين ومن كل فجٍّ ينسلون ..



مدينة دالاس - ولاية تكساس


الأمر الذي استوقفني هو دكان من الدكاكين بينهم ، بالطبع ليس ماخوراً أو حانوتاً فلا تسيؤوا الظن..!

كان دكاناً لتجهيز الجنائز وبيع التوابيت للموتى.......!

في وسط الشارع ..!

المواخير والحوانيت عن يمينه وشماله...!

وقفت مستغرباً وسألت نفسي: مالذي أراه هنا ..! ماذا يفعل هذا الدكان هنا..؟!

ثم توالت علي أسئلة أكثر عمقاً مثل: ألا يتعظ من في الشارع عندما يروا هذا الدكان ويتذكروا ما سيؤولون إليه في آخر حياتهم؟ ألا يطرح هذا الدكان أسئلة وجودية لرواد هذا الشارع الصاخب عن ماهية الحياة ومعانيها؟ ما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً؟ أليس منهم رجلٌ رشيد..؟

تتابعت الأسئلة إلى نفسي في سردية لا نهاية لها ..

أليس الغرب هم الأذكى والأكثر وعياً وووو وأكثر الشعوب قراءة كما تنشر الدراسات دائماً؛ فأين ذهب كل ذلك..؟

وحدانية الإله وحتمية وجود يوم للقضاء بين البشر أمران لا أظن أنهما يخفيان على كل ذي لبٍّ ..

تذكرت قصة لعمرو بن العاص رضي الله عنه عندما سأله أحدهم في آخر عمره عن سبب تأخره عن الإسلام كل ذلك الوقت وهو داهية الدواهي ويستطيع بذكائه أن يتفكر ويعرف صدق دعوة النبي محمد صلى الله عليه وسلم .. فأجاب بأنهم كانوا يرون شيوخ قريش الكبار قد كفوهم مؤونة التفكر والتحليل في هذا الدين الجديد، فلما ماتوا جميعاً وصار أمر قريش إلى شبانها وهو منهم تفكر في هذا الدين بجدية وأيقن بحتمية ما يدعو إليه فآمن به وهاجر إلى المدينة وأعلن إسلامه فقال النبي صلى الله عليه وسلم حينئذٍ (أسلم الناس وآمن عمرو بن العاص) ..

قليل من التفكير فقط يدلك على الطريق ، فكيف وداعي التفكير منصوبٌ لك يا طالب اللذات في وسط الشارع..!

(أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)

قال ابن كثيراً تعليقاً على هذه الآية:

"فهم أسوأ حالاً من الأنعام السارحة ، فإن تلك تعقل ما خُلقت له ، وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده لا شريك له ، وهم يعبدون غيره ويشركون به ، مع قيام الحجة عليهم ، وإرسال الرسل إليهم"

ختاماً ..

احمدوا الله أن منّ عليكم بأن جعلكم عرباً مسلمين ، وأقول لكل من يقرأ سطوري هذه تلك الكلمة التي نقشها عمر بن الخطاب رضي الله في خاتمه تذكيراً لنفسه:

(كــفى بالمـــــــــوت واعظاً يا عمر)


دمتم في رعاية الله.

 

 

عبدالله الحماطي


-----------------------------------------------

[1]  كلمة مستحدثة لوصف المهتاف أو اللاقط الصوتي

[2]  كلمة فارسية معربة من أصل يوناني وتعني كراسة، وصارت دارجة.


تعليقات

  1. لعل التفسير أن النفس إذا أطلق لها العنان واستحكمت الغفلة فلا حدود لظلمها وتعديها وغيها...

    وفقك الله وحفظك من كل سوء..

    ردحذف
  2. جزاك الله خير ..الموضوع هذا يجددلنا التوبه والرجوع الى الطريق المستقيم من الغفله التى نحن فيها ...

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

26 سبتمبر – يوم من أيام الله

102 عام على مذبحة قافلة الحجاج اليمانية

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال