ألم الغياب
ألم الغياب
أحدثكم
اليوم عما يخالجني من حنين، عن شوق يملؤني لمن غابوا عني، ذكريات تأسرني في
الماضي، فتجعل المضي قدماً أمراً صعباً، فلا أنا في الماضي أستمتع فيه ، ولا في الحاضر أعيشه بتفاصيله ، ولا أعلم عن المستقبل شيئاً ..
من مرّ بما مررت به يعي ما أقول، فالمرء يصبح في اللازمان، قلبه في زمان وقالبه في زمان آخر ..
حديثي
اليوم مليء بالشعر، فهو سلوان العربي وصوت قلبه، صورة عاطفته ومشاعره، يعبر به بما لا
يستطيع النثر سرده، فينشده الراثي وكبده تتقطع، والبائن ونفسه تتوق إلى وصلٍ قريب
يشفي به غليله ..
ولم
أذكر الراثي والبائن هنا إلا لارتباطهما بالموضوع، فهذه
الورقات تحكي عن البعد والغياب ..
ما
أبلغها من كلمة وأعمقها من أسئلة تلك التي افتتح بها المتنبي أحد أجمل قصائده؛
بمَ
التعلّل لا أهلٌ ولا وطنُ؟ ** ولا نديمٌ ولا كأسٌ ولا سكنُ..؟
نعم؛ مالذي يبقى إن غاب الأحباب والوطن..؟
إن الغياب قطعة من العذاب، فبه يتولد الشوق المؤلم ..
أفلا
تنظرون إلى حال السجين والأسير..؟
إن
السجين يتألم بحبسه، والشوق لأحبابه يذكي نار الألم في قلبه، فهو ليس
مصدر أملٍ للسجين ومحفزاً له على الصمود كما يعتقد الكثيرون، بل هو عذابٌ فوق العذاب..!
إن للغياب أثرٌ عكسي غريب، فالشوق المتولد منه يزيد في محبة الغائب، فكم منا من لا يحس بمحبته لأحدهم حتى يبتعد عنه قليلاً؟، أو يغيب عنه لبرهة من الزمن..؟
لأحد الفلاسفة مقولة مشهورة عن هذا الموضوع؛ (ابتعد حتى أراك!) ، فالنفس لا تلحظ حبها لمن يجاورها لاعتياد مجاورته،
لكنها أشد ما تكون ملاحظة لمن يبتعد عنها، فتشعر بالفراغ الذي كان يملؤه حضوره ..
جعلني
هذا الأمر أنظر في قصص القدماء وكلامهم عن الغياب، فاستوقفتني بعض أخبارهم
المناسبة لزماننا، كالغياب عن الأحباب والهجرة إلى بلاد بعيدة طلباً للرزق، فلا
تكاد في زماننا تجد أحداً من الناس لا يعرف في محيطه رجلاً هاجر إلى مشارق الأرض
ومغاربها طلباً للرزق رغم غنى بلداننا والله المستعان ..
أسمع
أحدكم يقول من بعيد: لا تطل علينا أرجوك..!
لا
تقلقوا .. إن هي إلا قصتين فقط أولاهما حكاية ابن زريق البغدادي رحمه الله ..
كان
في بغداد في مطلع القرن الخامس الهجري شاب يدعى علي بن زريق البغدادي، رقيق الحال
شديد الفقر، تكالبت عليه الهموم والديون فعقد العزم على الهجرة طلباً للرزق، تلفت
يمنة ويسرة ورأى أن أغنى بلاد العالم ذلك الوقت هي الأندلس، فعزم على الهجرة إليها
..
كان ابن
زريق ينوي الدخول على خليفة الأندلس وينشده بعض أبياته ونوادره فيعجب به الخليفة
ويهبه أموالاً وضياعاً كعادة الخلفاء، فتنقلب حياته من بؤس إلى نعيم ..
فحدث
زوجته بما هو عازمٌ عليه، فألحّت عليه وأصرت أن لا يذهب ويفارقها، وهو مصرٌ
تماماً، رغم حبه الشديد لها وتعلقه بها ..
فحزم
أمتعته القليلة وحانت ساعة الفراق، وزوجته المسكينة تبكي وتنتحب وترجوه أن لا يذهب
ويتركها، وهو لا يتمتم إلا بوعوده بأنه سينتشلهم من هذا الفقر، وأن حياتهم ستتغير
قريباً ..
ثم
خرج مع أول قافلة، فسقطت زوجته على الأرض تبكي بكاءً يقطّع القلب، وتجالد ابن زريق
أمامها ولم يضعف حتى خرج من المنزل، وابتدأت حينئذٍ دموعه بالانهمار ..
وبعد
سفر طويل قارب العام من بغداد حتى الأندلس ما بين سهل وجبل وتل وبحر وبر، ومع ما
فيه من مخاطر كالوحوش وقطاع الطرق، وصل ابن زريق أخيراً إلى شاطئ الأندلس، وكان ذلك
في تاريخ 420 هجري ..
وكان
قاصداً مدينة قرطبة عاصمة الخلافة الأندلسية وإحدى حواضر الدنيا، ودخل قصر الخلافة،
وأذن له بالدخول على الخليفة ..
فراح
ينشد بعض أبياته للخليفة، ويحكي له بعض نوادره وقصصه، ولكن الخليفة لم يستظرفه وصرفه
دون أن يعطيه شيئاً...!
دُهِش
ابن زريق.......!
أبعد
هذا السفر الطويل والفراق والمغامرة لا أنال شيئاً....؟!
فضاقت
عليه الأرض بما رحبت، وعاد إلى منزله الذي استأجره فور وصوله، وأغلق على نفسه
الباب وراح يبكي ويتحسر ..
يبكي
لفراق زوجته ووطنه .. يبكي لخيبة أمله .. يبكي بكاء المقهور العاجز المخذول ..
وأخذ
ورقة وقلماً وكتب رسالة إلى زوجته في بغداد ..
رسالة
على شكل قصيدة طويلة تقطر دمعاً ويملؤها الاعتذار والشوق والحسرة؛ مطلعها:
لا تَعذلِيه فَإِنَّ العَذلَ يُولِعُهُ ** قَد قَلتِ حَقاً وَلَكِن
لَيسَ يَسمَعُهُ
جاوَزتِ فِي لَومهُ حَدّاً أَضَرَّ بِهِ ** مِن حَيث قَدرتِ أَنَّ
اللَومَ يَنفَعُهُ
فَاستَعمِلِي الرِفق فِي تَأِنِيبِهِ بَدَلاً ** مِن عَذلِهِ فَهُوَ
مُضنى القَلبِ مُوجعُهُ
قَد كانَ مُضطَلعاً بِالخَطبِ يَحمِلُهُ ** فَضُيَّقَت بِخُطُوبِ
الدهرِ أَضلُعُهُ
يَكفِيهِ مِن لَوعَةِ التَشتِيتِ أَنَّ لَهُ ** مِنَ النَوى كُلَّ
يَومٍ ما يُروّعُهُ
ما آبَ مِن سَفَرٍ إِلّا وَأَزعَجَهُ ** رَأيٌ إِلى سَفَرٍ بِالعَزمِ
يَزمَعُهُ
كَأَنَّما هُوَ فِي حِلِّ وَمُرتحلٍ ** مُوَكَّلٍ بِفَضاءِ اللَهِ
يَذرَعُهُ
إِذا الزَمان أَراهُ في الرَحِيلِ غِنىً ** وَلَو إِلى السند أَضحى
وَهُوَ يزمعُهُ
تأبى المطامعُ إلا أن تُجَشّمه ** للرزق كداً وكم ممن يودعُهُ
وَما مُجاهَدَةُ الإِنسانِ تَوصِلُهُ ** رزقَاً وَلا دَعَةُ الإِنسانِ
تَقطَعُهُ
قَد وَزَّع اللَهُ بَينَ الخَلقِ رزقَهُمُ ** لَم يَخلُق اللَهُ مِن
خَلقٍ يُضَيِّعُهُ
لَكِنَّهُم كُلِّفُوا حِرصاً فلَستَ تَرى ** مُستَرزِقاً وَسِوى
الغاياتِ تُقنعُهُ
وَالحِرصُ في الرِزق وَالأَرزاقِ قَد قُسِمَت ** بَغِيٌ؛ أَلا إِنَّ
بَغيَ المَرءِ يَصرَعُهُ
وَالدهرُ يُعطِي الفَتى مِن حَيثُ يَمنَعُه ** إِرثاً وَيَمنَعُهُ مِن
حَيثِ يُطمِعُهُ
أستَودِعُ اللَهَ فِي بَغدادَ لِي قَمَراً ** بِالكَرخِ مِن فَلَكِ
الأَزرار مَطلَعُهُ
وَدَّعتُهُ وَبوُدّي لَو يُوَدِّعُنِي ** صَفوَ الحَياةِ وَأَنّي لا
أَودعُهُ
وَكَم تَشبَّثَ بي يَومَ الرَحيلِ ضُحَىً ** وَأَدمُعِي مُستَهِلّات
وَأَدمُعُهُ
لا أكذب اللَهَ ثوب الصَبرِ مُنخَرقٌ ** عَنّي بِفُرقَتِهِ لَكِن
أَرَقِّعُهُ
وما هي إلا أيام قلائل حتى مات ابن
زريق في منزله هماً وكمداً..!
وبعد القصة بأيام تذكّر الخليفة ذلك الغريب
البغدادي الذي جاءه، فسأل عنه فلم يجد جواباً، فأرسل العسكر إلى بيته ليستعلموا
أمره، فدخلوا عليه فوجدوه جثة هامدة ووجدوا الورقة بجواره فأعطوها الخليفة فقرأها
فندم على صرفه إياه وخذلانه له.
القصة الثانية لأبي العلاء المعري
رحمه الله، وهو أحمد بن عبدالله المعري، شاعر كبير وفيلسوف عريق، ولد في الشام وأصابه
العمى بسبب الجدري وهو ابن أربع سنين، فتربى ونشأ أعمى تماماً مما أوقد فيه الذكاء
والذاكرة كعادة العميان، وكان يكره مخالطة الناس، شديداً عليهم حتى على المقربين
منه، إلا رجلاً واحدً كان يعزّه ويجلّه ويحبّه حباً عظيماً، وهو خاله علي بن محمد ..
وفي أحد الأيام قرر خاله علي أن
يهاجر إلى المغرب طلباً للرزق، فحزن أبو العلاء على فراقه حزناً شديداً، وأصابه هم
عظيم ..
فكتب قصيدة طويلة يرجو فيها خاله أن
يتراجع عن قراره بالرحيل؛ وقال فيما قال:
تُــفَــدّيــكَ النُّفــوسُ ولا تَـفـادى ** فـأدْنِ
القُـرْبَ أوْ أطِـلِ البِـعادا
أرانــا يــا عــلِيّ وإنْ أقَــمْـنـا ** نُــشــاطِـرُكَ
الصَّبـابَـةَ والسُّهـادا
ولولا أنْ يُـــظَـــنّ بـــنـــا غُــلُوٌّ ** لزِدْنـا
فـي المقالِ مَن اسْتَزادا
قــيـل أفـادَ بـالأسْـفـارِ مـالاً ** فـقُـلْنـا
هـل أفـادَ بـهـا فـؤادا؟
وهـــل هـــانَــتْ عَــزائِمُهُ ولانَــتْ ** فــقــد
كــانَـت عـرائِكُهـا شِـدادا
إذا ســارَتْـكَ شُهْـبُ الليـل قـالت ** أعــانَ
الُله أبْــعَــدَنــا مُــرادا
وإنْ جـارَتْـكَ هُـوجُ الرّيـحِ كـانـت ** أكَــــلَّ
رَكــــائبـــاً وأقَـــلَّ زادا
ويَـــبْـــكـــي رِقَّةً لكَ كــلُّ نَــوْءٍ
** فــتَـمْـلأ مِـن مَـدامِـعِهِ المَـزادا
سـنَـلْثَـمُ مـن نَـجـائِبِـكَ الهَـوادي ** ونَـرْشُـفُ
غِـمْـدَ سـيـفِـكَ والنِّجـادا
ونَــسْــتَـشْـفـي بِـسُـؤرِ جَـوادِ خَـيْـلٍ
** قَـدِمْـتَ عـليـه إنْ خِفْنا الجُوَادا
كــأنّــكَ مِــنْهُ فــوقَ سَــمــاءِ عِــزٍّ
** وقــد جُــعِــلَتْ قَــوائِمُه عِــمــادا
إذا هــــادَى أخٌ مِــــنّـــا أخـــاهُ ** تُــرابَــكَ
كـان ألْطَـفَ مـا يُهـادى !
أَبِـالإسْـكَـنْـدَرِ المَـلِكِ اقـتَدَيْتُمْ
** فــمــا تَـضَـعـونَ فـي بَـلَدٍ وِسـادا؟
عــلامَ هَــجَـرْتَ شـرْقَ الأرضِ حـتـى ** أتَـيْـتَ
الغَـرْبَ تَـخْـتَـبِرُ العِبادا؟
فـإنْ تَـجِدِ الدّيَار كما أراد الـ ** غَـريـبُ
فـمـا الصّديقُ كما أرادا
ظَــعَـنْـتَ لِتَـسْـتَـفـيـدَ أخـاً وفِـيّـاً
** وضَــيّـعْـتَ القَـديـمَ المُـسْـتَـفـادا
أقِــمْ فــي الأقْـرَبِـيـنَ فـكُـلُّ حَـيّ **
يُـرَاوَحُ بـالمَـعِـيـشَـةِ أوْ يُـغـادى
وليـــس يُـــزادُ فــي رِزْقٍ حَــريــصٌ ** ولو
رَكِــبَ العَـواصِـفَ كـي يُـزادا
فــمــا يَــنْــفَــكُّ ذا مـالٍ عَـتِـيـدٍ **
فـتـىً جَـعَـلَ القُـنـوعَ له عَـتـادا
ومـا زِلْتَ الرّشـيـدَ نُهـىً وحـاشَـا ** لفَـــضْـــلِكَ
أنْ أُذَكّــرَهُ الرّشــادا
ومِــثــلُكَ للأصــادِقِ مُــســتَــقِـيـد ** وشَــرُّ
الخــيْـلِ أصْـعـبُهـا قِـيـادا
ورُبّ مُـــبـــالِغٍ فــي كَــيْــدِ أمْــرٍ
** تــقــولُ له أحِــبَّتــُه اقْــتِـصـادا
وذي أمَـــلٍ تَـــبَـــصَّرَ كُـــنْهَ أمْــرٍ
** فــقَــصَّرَ بَــعْــدَمـا أشْـفـى وَكـادا
نُـراسِـلُكَ التّـنَـصّـحَ فـي القَوافي ** وغــيــرُكَ
مَــنْ نُــعَــلّمُهُ السَّدادا
فــإن تَــقْــبَـلْ فـذاك هَـوَى أُنـاس ** وإنْ
تَــرْدُدْ فـلم نـألُ اجْـتِهـادا
في الختام؛
أسأل
الله أن يلم شمل المتباعدين، ويرد الغائبين سالمين غانمين غير خزايا ولا مفتونين
..
وأودعكم بما ودع به عبدالرحمن الداخل ركباً من المسافرين إلى بلاد الشرق؛
أيها الراكب الميمم أرضي ** أقري من بعضي السلام لبعضي
إن جسمي كما علمت بأرضٍ ** وفؤادي ومالكيه بأرضِ
عبدالله الحماطي
تعليقات
إرسال تعليق