العمل ورينيه ديكارت ونهضة الأمة وأشياءٌ أُخر


العمل ورينيه ديكارت ونهضة الأمة وأشياءٌ أُخر 

 

كل واحد منا (أو هكذا أعتقد) يُمنّي نفسه بتحقيق المنجزات العظيمة، ويزيد على الدنيا شيئاً لئلا يكون زائداً عليها كما قال الرافعي، وكل ذلك مؤطّر بإطار زمني محدود مجهول، ينتهي بمجيء سارق الأرواح كعادته دون إنذار؛ فيعلن عن نهاية حياة هذا الجسد ورد الأمانة إلى صاحبها الأول ، ولذلك يسير المرء منا مجتهداً مسرعاً كأنما يتدارك الوقت الذي يؤمن أنه قصير -سواء أقرّ بذلك أم لا- قبل أن يتخطّفه الموت بغتة وهو لا يشعر ..

ولعل الحكمة في إخفاء وقت النهاية لكل منّا كما نص عليها ابن قدامة هو لترغيب المرء في السعي الحثيث لإعمار الأرض بدلاً من أن يتنغّص حاله وينشغل فكره بالنهاية الكئيبة، فيتوقف بسببها عن الجد والعمل ، ومثلها في ذلك مثل وقت ليلة القدر وساعة الجمعة ووقت نزول الله سبحانه وتعالى كل ليلة وغيرها من الأوقات التي كان إخفاؤها داعياً إلى الاجتهاد والعمل ، ويا سعده وهناءه من كان سعيه وعمله في حياته هو طلب الغاية الأسمى والسلعة الغالية ؛ الجنة.

يا خاطب الحور الحسان وطالباً ** لوصالهنّ بجنة الحيوانِ

أسرع وحث السير جهدك إنما ** مسراك هذا ساعة لزمانِ

 



كنت قد قرأت أن الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت وهو الرياضي العبقري والمفكر الشهير كان قد اتخذ لنفسه حِكَماً وقواعداً يسير بها في حياته، وهي أشبه بالمنهج الذي يتبعه في سبيل المعرفة والعيش بسلام، ومن ضمن حكمه ما سأذكره لكم بتصرّف:

"وكانت حكمتي الثالثة هي أن أجتهد دائماً في أن أغالب نفسي لا أن أغالب الحظ، وأن أغير رغباتي لا أن أغير نظام العالم، أي أن أتعود الاعتقاد بأننا لا نقدر قدرة تامة إلا على أفكارنا ، بحيث أننا إذا فعلنا أقصى ما نستطيع فعله فيما هو ليس بأيدينا؛ فإن كل ما ينقصنا بعد ذلك من أسباب النجاح هو مستحيل على الإطلاق، وهذا وحده فيما بدا لي كان كافياً في أن يصدني عن الطمع في المستقبل في شيء لا أناله أبداً، وأن يجعلني راضياً، لأنه لما كانت إرادتنا بطبيعتها لا تميل إلا إلى الأشياء التي يصوّرها لنا فهمنا أنها ممكنة بحال ما؛ فمن المؤكد إذن أنه إذا اعتبرنا كل الخيرات التي ليست بأيدينا تتساوى في بعدها عمن هو في مثل قدرتنا؛ فإننا حينئذٍ لا نكون أشد أسفاً على الحرمان؛ منّا أن لا تكون لنا ممالك الصين والمكسيك."

 

رينيه ديكارت


فبعد قراءتي لكلامه جلست حائراً أتأمل ..

وتساءلت .. كيف لفيلسوف عظيم مثله أن يهيّض الناس على القعود والخمول..؟!، بل لقد كان شعاره في حياته "عاش سعيداً من أحسن الاختباء"..! 

ثم أجبت نفسي بنفسي فقلت؛ ما أجمله من قعود إذا كانت مخرجاته 17 كتاباً كما لديكارت! ، وذكراً وصيتاً يمتد لمئات السنين ..

ثم تساءلت بعد ذلك..!

إن المسلم يجب عليه أن ينهض بأمته أو أن يبذل ما في وسعه لنهوضها، وأن يكون شغله الشاغل هو إعلاء راية الدين، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فنحن نعيش بالدين وللدين، وقد قال تعالى (قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين)، وهذا دأب الصالحين وذووا الهمم من قبلنا، لا حيود عن الطريق ولو تكالبت الصعاب، كأبي بكر في مواجهة المرتدين، وعمر بن العزيز في إصلاح المجتمع، وأحمد بن حنبل في نصرة السنة، وعماد الدين زنكي ونور الدين وصلاح الدين في نصرة القدس، وقطز في صد التتار، وابن تيمية في صد التتار والدفاع عن العقيدة .. فيجب حينئذٍ أن يكون هذا أيضاً دأبنا وشغلنا وهمنا ..

فالسؤال هو كيف يمكنني أن أجمع بين هذا الهم الكبير وبين ما قاله ديكارت إذا افترضنا جدلاً صحته..؟

 

بعد سؤالٍ وتحرٍّ هنا وهناك وصلت إلى جواب وقناعة للجمع بين الأمرين؛ وهي:

لا يصلح قياس زماننا بزمان أسلافنا الأوائل، فلا تحمّل نفسك فوق طاقتها باتخاذ أهداف عامة كبيرة كتحرير القدس مثلاً أو إرجاع الخلافة أو أن تنهض بالأمة، فتتحطم وتيأس لعدم تحقيقك لها، لأنك كما قال ديكارت لا تملك إلا أن تغير نفسك لا أن تغير العالم، وليس لك مقدرة مطلقة إلا على أفكارك (بمعونة الله وتثبيته بكل تأكيد)، وأن الإصلاح يبدأ من النفس ثم المجتمع، لا من الرأس والسلطة، فهذه هي حقيقة وضعنا "الجديد".

وفي مقطع للشيخ أحمد السيد حفظه الله يجيب فيه على سؤال أحدهم (كيف تنهض أنت بالأمة الإسلامية؟) يقول:

"في رأيي أن هذا السؤال لم يعد ممكناً في هذا الزمن .. لم يعد من الممكن لشخصٍ واحد أن ينهض بالأمة الإسلامية .. فعلى قدر التحديات التي مرت بالأمة الإسلامية قديماً لكن كانت الظروف أو عوامل الإصلاح يمكن أن تهيئ لشخصٍ من الأشخاص يمتلك مميزات قيادية عسكرية علمية ثقافية أياً كان؛ يمكن له أن يحرّك عجلة نهضة الأمة الإسلامية، أما اليوم فالواقع أكثر تعقيداً بكثير من المراحل التاريخية السابقة .. ولو مرت مراحل سابقة أصعب من بعض الوجوه؛ إلا أنه لا أتصور أن هناك مرحلة زمنية صار فيها الإصلاح أصعب من هذه المرحلة، فدور القائد الموحّد الذي ينهض بالأمة الإسلامية أتصور أنه دور لم يعد مطروحاً في هذا الزمن، لكن يمكن لبعض الأشخاص أن يكون لهم دور أو تأثير أكبر من غيرهم، ولا أعني بكلامي هذا اليأس من الإصلاح، ولكن القضية انتقلت من طور الإصلاح الفردي إلى طور توزيع أدوار النهضة بين أفراد مجتمعين."

 


الشيخ أحمد السيد


وبهذا الصدد للألباني رحمه الله مقولة جميلة مناسبة لطور أمتنا الحالي وهو "طور توزيع أدوار النهضة بين أفراد مجتمعين" كما وصفه الشيخ السيد، يقول (ليس الفوز أن تصل للنهاية، بل الفوز أن تموت على الطريق) فلا يستلزم من صلاحك وسعيك لإصلاح من حولك أن ترى النتيجة، قد تظهر نتيجة عملك بعد موتك بسنين والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً ..

ختاماً اختر أهدافك بعناية ، لأن الأهداف والأمنيات المستحيلة من أسباب التعاسة كما يقول ديكارت، وفي نفس الوقت لا تحتقر قدراتك واتخذ بين ذلك سبيلاً ، واجعل شعارك وصية النبي صلى الله عليه وسلم لنعيم بن مسعود وهو من أعيان جيش المشركين في غزوة الأحزاب، فقد أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم سراً وأعلن إسلامه بين يديه، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم (خذّل عنا ما استطعت) ، فلم يقل نعيم رضي الله عنه فمالذي بوسعي عمله وأنا وحيد بين 10 آلاف مقاتل مشرك، بل بذل ما في وسعه وكان من أسباب نجاة المسلمين ، فعليك البذل والعمل للأمة بما تستطيع ، والنتيجة عند الله.

 

ختاماً ..

أعلم أن الكلام تشعب كثيراً ، لكنها لم تكن سوى خواطر راودتني فأحببت تدوينها وعرضها عليكم، وإني لآنس بأرائكم وتعليقاتكم فلا تحرموني منها ..

في أمان الله

 

 

عبدالله الحماطي


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

26 سبتمبر – يوم من أيام الله

102 عام على مذبحة قافلة الحجاج اليمانية

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال