رأيت إسلاماً بلا مسلمين !

رأيت إسلاماً بلا مسلمين !

 

كان الشيخ محمد عبده رحمه الله قد فرّ من مصر إلى فرنسا في أواخر القرن التاسع عشر هو والشيخ جمال الدين الأفغاني وعدد من العلماء بعد بطش الخديوي توفيق بجماعتهم وغدره بهم، وذلك بعد دعمهم وتأييدهم لثورة عرابي ضد المستعمر الإنجليزي ..


الشيخ محمد عبده رحمه الله


على اليمين؛ الخديوي توفيق ملك مصر

على اليسار؛ عرابي أحمد عرابي قائد المجاهدين ضد الاستعمار الإنجليزي 

وفور وصوله لباريس مدينة النور أصابه ما يصيب أغلب المسلمين المهاجرين إلى أوروبا من صدمة حضارية وثقافية ؛ فجعلته مبهوراً بكل ما يراه ، مفتوناً بأبسط الأمور كالجد في العمل والاستيقاظ مبكراً والحفاظ على المواعيد وغيرها من الأمور الظاهرة والمشَاهدة للكل ، وفي تلك الفترة كان الفارق الحضاري بين الشرق والغرب مهولاً ، أسوأ من أيامنا هذه بمراحل! ، فكان وقع الدهشة عليه عظيماً ، حينئذٍ قال كلمته الشهيرة : "رأيت إسلاماً بلا مسلمين !" ..

لم يكن يدري الشيخ رحمه الله أن كلمته ستكون بمثابة العذر لملايين المسلمين المنسلخين من كل القيم الإسلامية بعد أن وطئت أقدامهم تراب الغرب ، والمشكلة الكبرى أن أغلبهم لم يأخذ من الغرب إلا سيئاته ؛ كالخوض في الملذات حتى النخاع ، ومركزية الإنسان وقدسية العقل ..

فعامَلوا الدين معاملة "المصلحة" لا معاملة الاستسلام والانقياد ؛ الذي هو معنى كلمة الإسلام أصلاً ، فأي منطق عند هؤلاء الذين يقولون :

لو كان الإسلام خيراً لما وصل حالنا لهذا السوء !

تعاليم الدين وأخلاقه موجودة عند الغرب أكثر من المسلمين !

الدين يعني الأخلاق والتعامل وأن تكون شخصاً جيداً، وليس عبادات في المسجد !

أين نصر الله لدينه وبلاد المسلمين يحكمها مجموعة من الطغاة والسفاحين ؟!

 

إن مشكلة أغلب المفتونين بالغرب كما ذكرها الزعيم البوسني علي عزت بيغوفيتش أنهم لم يفهموا أن الغرب إنما تقدم علينا بطريقته في العمل ، وليس بطريقته في الحياة.

لقد صار كثير ممن يدعون أنفسهم بالمثقفين يطالبون بنهضة مجتماعاتهم "الإسلامية" عن طريق الحذو حذو الغرب ، وعيش حياة الغرب والتطبع بطبائعهم ، وإعطاء الناس الحرية المطلقة في كل شيء ..

إن من ينظر إلى التاريخ الديني والأخلاقي للولايات المتحدة الأمريكية في القرن الأخير سيرى كيف أن التدرج في الانحلال كان سبب وصولهم إلى ذروته في الوقت الحالي؛ ففي الثلاثينيات مثلاً كان الخمر ممنوعاً لديهم، بل ويعاقب من يتّجر به، فتمكنت بعض العصابات من تمريره وبيعه للناس في السوق السوداء رغم تشديد السلطات، وشيئاً فشيئاً سمحت الحكومة بتداوله حتى صار الآن مثله مثل شرب الماء ..

 وانظروا أيضاً إلى لباس الأمريكيات في النصف الأول من القرن؛ كان قمة في الاحتشام، وشيئاً فشيئاً صار العري في أيامنا هو الأساس .. ثم إن عقوبة المثليين في أمريكا في النصف الأول من القرن كانت الإعدام، وأما الآن فلا داعي لأن أخبركم ..

إن المتأمل لتدرج الانحلال الأخلاقي في أمريكا يرى تشابهاً كبيراً في بدايته مع كثير من دولنا العربية ، وإن لم نتكاتف جميعاً لإيقاف هذا المد الأسود القادم لأبنائنا وأحفادنا فمصيرهم كمصير الأمريكان حالياً .. ولأصدقكم القول ؛ البوادر في شبابنا ذكوراً وإناثاً منذ الآن لا تبشر بخير ! .. انظروا إلى الضحالة الفكرية والسطحية والتفاهة التي يخوض في مستنقعاتها أغلبهم ! .. لا يملك المسلم القلِق على مستقبل أمته بل ومستقبل الإسلام القريب إلا أن يقول يا رب سلم سلم ! ..

 

نعود للشيخ محمد عبده ونقول ؛ أن نضاله رحمه الله ليس لطرد الاستعمار الإنجليزي من مصر فحسب ، بل لإصلاح المجتمع الذي عمّه الجهل في عامته والانحلال والتغريب في خاصته، وأيضاً في محاولته إصلاح طبقة العلماء المسيطرة على الساحة في ذلك الوقت، خصوصاً علماء الأزهر الشريف، فهؤلاء العلماء كان يخشى منهم الشيخ على الإسلام كخشيته عليه من التغريبيين أو أشد، فعلى سبيل المثال ؛ رفض علماء الأزهر في عصره تدريس الحساب والهندسة في جامعة الأزهر، وعذرهم: "أن الجمهور على أن هذين العلمين يفسدان العقل، ويضيعان الاستعداد لفهم علوم الدين، وينبغي عدم تدريسهما!" .. فكان صدام الشيخ رحمه الله مباشراً مع أمثال هؤلاء المتحجّرين ..

ومما أذكره أيضاً أنني قرأت مجموعة من الرسائل المتداولة بين الشيخ محمد عبده والأديب الروسي الكبير تولستوي الذي أراد أن يستفسر عن الإسلام وتعاليمه فوجد ضالته في الشيخ المصري ..

فوقفت متعجباً من همة الشيخ وسعيه للدعوة والإصلاح في بلاده (بلاد العرب والمسلمين) وخارجها !

سأعرض لكم مقتطفات من أحد تلك الرسائل ، والملفت أن بعض هذه الرسائل لا تزال أوراقها موجودة إلى يومنا هذا ..




 


"عين شمس - ضواحي القاهرة - فى 8 إبريل 1904

 

أيها الحكيم الجليل مسيو تولستوي ..

لم نحظ بمعرفة شخصك ولكن لم نحرم التعارف بروحك، سطع علينا نور من أفكارك، وأشرقت في آفاقنا شموس من آرائك ألفت بين نفوس العقلاء ونفسك، هداك الله إلى معرفة الفطرة التي فطر الناس عليها، ووقفك على الغاية التي هدى البشر إليها، فأدركت أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم ويثمر بالعمل، ولأن تكون ثمرته تعباً ترتاح به نفسه وسعياً يبقى ويرقي به نفسه، شعرت بالشقاء الذي نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة واستعملوا قواهم التي لم يمنحوها إلا ليسعدوا بها فيما كدر راحتهم و زعزع طمأنينتهم، نظرت نظرة في الدين مزقت حجب التقاليد ووصلت بها إلى حقيقة التوحيد، ورفعت صوتك تدعو إلى ما هداك الله إليه وتقدمت أمامهم بالعمل لتحمل نفوسهم عليه، فكما كنت بقولك هادياً للعقول كنت بعملك حاثاً للعزائم والهمم ... وأحمد الله على أن فارقوك بأقوالهم، كما كنت فارقتهم في عقائدهم وأعمالهم، هذا وإن نفوسنا لشيقة إلى ما يتجدد من آثار قلمك فيما تستقبل من أيام عمرك. وإنا لنسأل الله أن يمد في حياتك ويحفظ عليك قواك، ويفتح أبواب القلوب لفهم ما تقول ويسوق الناس إلى الاهتداء بك فيما تعمل والسلام.

 

مفتي الديار المصرية

محمد عبده

 

إذا تفضل الحكيم بالجواب فليكن باللغة الفرنسية فأنا لا أعرف من اللغات الأوروبية سواها"

 

 

وبعد سنوات من الغربة والدعوة والصبر والجهاد حضرت الشيخ الوفاة في الإسكندرية عام 1905م، وأنشد هذه الأبيات وهو على فراش موته لجليسه الشيخ محمد رشيد رضا رحمه الله :

ولست أبالي أن يقال محمد ** أبلّ أم اكتظت عليه المآتم

ولكنه دينٌ أردت صلاحه ** أُحاذرُ أن تقضي عليه العمائم

 

يشير رحمه الله بالعمائم إلى علماء عصره المتحجّرين الذين خشي على الإسلام منهم ..

ثم يقول :

وللناس آمالٌ يرجون نيلها ** إذا متُّ ماتت واضمحلت عزائم

فيارب إن قدّرت رُجعى قريبة ** إلى عالم الأرواح وانفضّ خاتم

فبارك على الإسلام وارزقه مرشداً ** رشيداً يضيء النهج والليل قاتم

يماثلني نطقاً وعلماً وحكمة ** ويشبه مني السيف والسيف صارم

 

فاللهم ارزقنا محمد عبده جديد يضيء لنا النهج والليل قاتم ..

رحم الله الشيخ محمد وأسكنه فسيح جناته.

 

 



عبدالله الحماطي


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

26 سبتمبر – يوم من أيام الله

102 عام على مذبحة قافلة الحجاج اليمانية

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال