عيد الشكر وزجاجة خمرٍ في يدي !
عيد الشكر وزجاجة خمرٍ في يدي !
إن مقال اليوم به اعترافٌ وتاريخٌ وقصةٌ وشعر ، فيبدو أني مطيلٌ قليلاً فأعتذر منكم يا قرّائي الأعزاء مقدماً ..
أبدأ حديثي بالرجوع للوراء للقرن الـ15 وال16 الميلادي ، إلى بريطانيا
التي كان يحكمها آنذاك الملك هنري الثامن ، أحد أشهر الملوك وأكثرهم تأثيراً
، والذي ما زال أثره باقياً إلى يوم الناس هذا ، وإني مُفردٌ لسيرة هذا الملك
العجيبة صفحات وصفحات قريباً إن شاء الله ..
عموماً هنري الثامن هذا كان في شبابه أثناء ولايته للعهد رمزاً
للفروسية ، وقوته وهيبته بين رجاله لا شك فيها .. لكنه في أحد الأيام سقط عن جواده
وأصيب إصابات بالغة كادت تودي بحياته ، وكان من آثار هذا الحادث أنه ترك الفروسية
للأبد ، فبلغت به البدانة والسمنة المفرطة مبلغاً عظيماً حتى وصل خصره إلى 137 سم
! .. وتم تتويجه ملكاً بعد وفاة أبيه سنة 1509م ..
تمضي السنين بالملك هنري وهو ليس له ولد يرث عرشه ، فزوجته لم تنجب
إلا ابنة وحيدة ، فأراد الملك أن يتزوج الثانية لتنجب له ابناً ، وهذا محرم عند
المسيحيين ، ثم إنه فوق ذلك أراد أن يتزوج الأميرة كاثرين أرملة أخيه الأمير آرثر
وهذا أيضاً محرم في المسيحية وداخلٌ تحت ما يعرف بزواج المحارم ..
فراسل الملك ممثل بابا روما في بريطانيا محاولاً استخلاص "فتوى"
منه تجيز له الزواج ، ثم راسل البابا نفسه محاولاً إقناعه بكل السبل، فكنيسة بريطانيا
الكاثوليكية تتبع لسلطة البابا في روما ..
رفض البابا الاعتراف بهذا الزواج رفضاً قاطعاً ، وهدّد الملك بأنه إن
فعلها فسيصدر بحقه مرسوم الحرمان الكنسي .. أي أنه لن يدخل الجنة أبداً..!
وبعد شدٍ وجذبٍ طويل رفع الملك راية التحدي في وجه البابا والكنيسة ؛
فأتم زواجه الثاني من أرملة أخيه، وتم إعلانها ملكة لبريطانيا ..
فأصدر البابا مرسوم الحرمان له ولزوجته من الجنة ، وسحب ممثله من
بريطانيا وسحبت روما سفيرها أيضاً .. فردّ الملك هنري بقراره الشهير وهو فصل
الكنيسة الإنجليزية عن البابوية في روما ، ولا تبعية لها بعد اليوم ، وأن يتم إيقاف
كل الأموال التي كانت ترسل لها من الكنيسة الإنجليزية ..
وليس هذا وحسب .. بل أعلن أن ملك بريطانيا هو السلطة الدينية الأعلى
في البلاد ، وأنه رأس الكنيسة الإنجليزية ، ولم يزل الحال على ماهو عليه إلى
أيامنا هذه ؛ فالملكة إليزابيث حالياً هي بمثابة "البابا" للكنيسة
الإنجليزية.
وبعد أن قمع الملك هنري كل المعارضين لهذا القرار الديني في بلاده استتبت
له الأمور ، وطال انتظاره لوريثه الجديد لكنه لم يأت بعد .. فأصدر لنفسه
"فتوى" وتزوج بامرأة ثالثة، وخلع كاثرين عن المُلك ونصّب الجديدة ملكة
على البلاد معه ، فلم تهبه الولد ، فأعاد نفس الكرّة وتزوج بامرأة رابعة ثم خامسة
ثم سادسة حتى رزق بولد أخيراً ، والذي تولى العرش بعد وفاة أبيه سنة 1547م، وهو
الملك إدوارد السادس الذي في فترته حدث حدثٌ تاريخي جديد وهو تحويل بريطانيا من
المذهب الكاثوليكي إلى المذهب البروتستانتي الجديد بشكل شبه كامل .. واستمر
التضييق على معتنقي المذهب الكاثوليكي شيئاً فشيئاً مع مرور الوقت فصاروا أقلية في
البلاد ، ولم تكن قلة عددهم لتثنيهم عن السعي للانتقام من العائلة المالكة ولوردات
البرلمان الكفرة في نظرهم ، مما ساهم في حدوث حدثٍ شهير آخر يدعى "ليلة البون
فاير" ..
ففي سنة 1605م وفي فترة حكم الملك جيمس الأول ؛ تم القبض على عصابة
مكونة من 8 أشخاص يقودهم رجل اسمه جاي فوكس ، وكانوا كاثوليك متعصبين وغيورين على دينهم،
وسبب اعتقالهم أنهم ملؤوا أرجاء مبنى البرلمان بالبارود ، انتظاراً لوصول اللوردات
والملك جيمس ؛ ثم يفجروا المبنى بمن فيه نصرة للكاثوليكية ..
فبسبب الخيانة كُشِف أمرهم وتم إعدامهم جميعاً .. وخرج الناس إلى الشوارع
شكراً لله واحتفالاً بسلامة الملك من مؤامرة الاغتيال ..
فصار هذا اليوم فيما بعد ذكرى سنوية للبروتستانتيين لشكر الله على نِعَمِه
بصفة عامة ، وهو ما عرف بـ"عيد الشكر".
أتوقف هنا وأنتقل بكم إلى إسبانيا، وتحديداً يوم 2 يناير سنة 1492م،
وهو يوم استسلام محمد ابن الأحمر آخر ملوك الأندلس ، وبه تكون الأندلس سقطت رسمياً
وسيطر عليها ملكي النصارى فرناندو وإيزابيلا سيطرة تامة ..
فبعد أن استتبت لهما الأمور في إسبانيا بعد هزيمة المسلمين جهزا الجيوش في نفس السنة لغزو البلاد العجيبة التي سمعا عنها وعن ثرواتها كثيراً ، فجعلوا على رأس الأسطول الإسباني القرصان الإيطالي كريستوفر كولومبس، وتم تغليف حملة السلب والنهب هذه بغلاف التبشير بالنصرانية الكاثوليكية وهداية العباد ..
فوصل كولومبوس للأمريكتين ووطّد تبعيّتهما لعرش إسبانيا ، فقامت الدول
البروتستانتية وعلى رأسها بريطانيا بإرسال الأساطيل للأمريكتين لمزاحمة إسبانيا لحكم
البلاد الغنية الجديدة وتعذروا بنفس العذر؛ التبشير بالبروتستانتية التي هي النصرانية
الصحيحة ..
وبعد مضي سنين طويلة وحروب أليمة أصبحت أمريكا الشمالية بروتستانتية
رسمياً ، وأعلن الرئيس الأمريكي الأول جورج واشنطن تاريخ 25 نوفمبر عيداً رسمياً في
البلاد؛ وهو عيد الشكر، تبعاً للكنيسة الإنجليزية.
أسمع متذمّراً يقول؛ قد حدّثتنا عن التاريخ فأطلت الحديث يا عبدالله ! .. ولم نعلم
بعد ما دخل عيد الشكر بزجاجة الخمر..؟
على رسلك يا أخي واسمع مالذي جرى ..
كنت في عملي منذ أيام ، وأهداني المدير "فطيرة تفاح" بعد
يوم عمل شاق ، فعدت بها إلى المنزل ، وأنا لست من عشاق الفطائر؛ فوضعتها في
"الثلاجة" ، واليوم التالي لهذا اليوم كان 25 نوفمبر ؛ أي أنه عيد شكر
الله على نعمه ، فطرأت في بالي فكرة أن أهدي لجاري الأمريكي هذه الفطيرة بهذه
المناسبة ، توطيداً للعلاقة بيننا ، فقد كان لطيفاً معي دائماً.
وبالفعل طرقت عليه الباب وأهديته الفطيرة ؛ فسُعِد بها كثيراً وتهلّل
وجه .. ثم ودعته وعدت إلى منزلي.
بعد هذه القصة بحوالي نصف ساعة وإذا بالباب يُطرق ..
فتحت الباب وإذا هو جاري الأمريكي نفسه وبيده هدية ! ..
وكان وجه متهللاً سعيداً ذا ابتسامة عريضة ..
فمد إلي يده وإذا فيها زجاجة خمر..!!
قال لي : "شكراً على هديتك ، وهذه هدية لك ، عيد شكر سعيد"
لم أدرِ ما أقول..!
لأكون صادقاً معكم ؛ كنت كمن شُلّت حركته ولسانه، لا أدري مالذي جرى لي..!
توقعت كل شيء إلا هذا الشيء !
ضعفت أمامه ولم أجرؤ على رده ..
عجزت أن أقول له أنني مسلم لا أشرب ..
لم أرد أن أكسر سعادته وبشاشته وهو يقدم لي هدية عند باب منزلي..!
نعم ؛ كان هذا خطأ مني ، أعترف بذلك ، لكنني والله كنت في موقف لا أحسد
عليه ..
مددت يدي وتناولت الزجاجة وودعته.
الآن الزجاجة في يدي ! .. عاد إلي وعيي ..! ما هذا يا عبدالله ..! أم
الخبائث..! لعن الله من يحمل الخمر..!
اضطربت وعجزت عن التفكير ..
هل أتلفها في الحمام مثلاً..؟ ، لكنني بهذا الطريقة سأعكس صورة سيئة
عني كمسلم ، فهو سيظن أني شربتها، بل وأضعِف صورة الإسلام والمسلمين لديه.
هل أردّها له..؟ ، لكنني قبلتها في المقام الأول ، ثم جاء في بالي أن
الخمر معصية لله وأنني لو أتلفتها لكان أجدر أن لا يعصى الله بها .. وأيضاً كنت
متردداً فوق ذلك لأنني سأكسر قلبه عندما أرد هديته ؛ فلا أدري بماذا سأتحجج له عندما
أردها ..
أخذتني الحيرة لنصف ساعة تقريباً وزجاجة الخمر أمامي .. في منزلي .. أنظر
إليها !
أرسلت لمجموعة ممن أعرفهم .. أستشيرهم فيما أفعله بها ..
منهم من أرسل لي "إيموجي" الفزع والصدمة ولم يرد علي بعد
ذلك .. ومنهم من تجاهلني .. ومنهم من أخذ الأمر بسخرية .. والبقية انقسموا بين ردها
وإتلافها ..
فكان أكثر من سألتهم مع ردها إليه ، فاستعنت بالله وأخذت الزجاجة اللعينة
، وزوّرت في نفسي كلاماً أقوله له ، وكان عندي مصحفٌ باللغة الإنجليزية فأخذته معي
..
طرقت باب بيته ففتح لي بابتسامته المعتادة فأخبرته أنني "اكتشفت"
أن هذه الزجاجة كحول وأنا مسلم لا أشربها، ولكنني أقدّر له هديته جداً (وكررتها
كثيراً أمامه) وأنها عنت لي الكثير، واعتذرت منه، ومددت له الزجاجة ومعها المصحف،
وقلت له هذا كتابنا المقدس هدية لك أيضاً ..
فبادلني الرجل الابتسامة والاعتذار أيضاً وقبل مني الزجاجة والمصحف بكل
ود، وعدت إلى منزلي وأنا أستغفر الله على فعلتي وأحمده على تيسير تصحيح الأمر.
وفي الليل جلست أفكر في الأمر ..
تذكرت مجالس بغداد والكؤوس بها تدور .. وإشبيلية وليالي السمر .. والشعراء
والخلفاء والندماء وكل ما هو متصل بالخمر .. ثم إن المرء لا يلفظ كلمة
"خمر" إلا ويتبادر إلى ذهنه مباشرة أبيات شاعر الخمر أبي نواس رحمه الله
وغفر له ومنها قوله ساخراً؛
دعِ المساجد للعباد تسكنها ** وطف بنا نحو خمّارٍ
ليسقينا
ما قال ربك ويلٌ للذين سكروا ** ولكن قال ويلٌ
للمصلينا
يعجبني هذين البيتين .. تجعل المرء يطرب رغماً عنه ..
ومنها قوله في وصف الخمر؛
دَعْ
عَنْكَ لَوْمي فإنّ اللّوْمَ إغْرَاءُ ** ودَاوني بالّتي كانَتْ هيَ الدّاءُ
صَفراءُ
لا تَنْزلُ الأحزانُ سَاحَتها ** لَوْ مَسّها حَجَرٌ مَسّتْهُ سَرّاءُ
رقَّتْ
عَنِ الماء حتى ما يلائمُها ** لَطافَةً، وَجَفا عَنْ شَكلِها الماءُ
فلَوْ
مَزَجْتَ بها نُوراً لَمَازَجَها ** حتى تَوَلّدَ أنْوارٌ وأَضواءُ
لتِلكَ
أَبْكِي ، ولا أبكي لمنزلةٍ ** كانتْ تَحُلُّ بها هندٌ وأسماءُ
ومنها قوله في مدح
الخمر وشربه؛
أَثْني
على الخمرِ بآلائها ** وسَمِّيها أحسَنَ أسمائها
لا
تجعلِ الماءَ لها قاهراً ** ولا تُسَلِّطْها على مائها
كَرْخِيّةٌ،
قد عُتّقَتْ حِقْبَةً ** حتى مضَى أكثرُ أجزائها
فلَمْ
يكَدْ يُدركُ خَمّارُها ** مِنها سِوَى آخِر حَوْبائِهَا
دارَتْ
فأحيتْ، غيرَ مَذمومةٍ ** نُفوسَ حَسراها وأنْضائها
والخمرُ
قد يَشرَبُها مَعْشَرٌ ** لَيسوا إذا عُدّوا بأكفائِهَا
ومنها قوله
مشتاقاً لها؛
يارُبَّ
مَجْلِسِ فِتْيانٍ سمَوْتُ له ** وَاللّيلُ مُحتَبِسٌ في ثوْب ظلماءِ
لِشُرْبِ
صافيةٍ من صَدْرِ خابيَةٍ ** تَغْشى عيونَ نَداماها بلألاءِ
كأنّ
مَنْظَرَها، والماءُ يقرَعُها ** ديباجُ غانيَةٍ، أو رقْمُ وَشّـاءِ
تَستنّ
من مَرحٍ، في كفّ مُصْطبحٍ ** من خمر عانة، أوْ خمر سُوراءِ
كأنّ
قَرْقَرَةَ الإبريق بَيْنَهُمُ ** رجْعُ المَزَامير، أو تَرْجيعُ فأفاءِ
حتى
إذا درَجتْ في القوْم، وَانتشرَتْ ** همّتْ عيونُهُمُ منها بإغفاءِ
فقمت بعدها وطردت تلك الوساوس عني، واستعذت بالله من أم الخبائث ..
غفر الله لي ولأبي نواس ، ولمن قال آمين.
عبدالله الحماطي
تعليقات
إرسال تعليق