رياضة النفس ومجاهدتها

 

رياضة النفس ومجاهدتها


لقد تفاجأت كثيراً بمدى التفاعل الكبير والتعليقات الكثيرة التي وصلتني عن المقال الماضي (عيد الشكر وزجاجة الخمر في يدي) ، وكنت أعلم أن العنوان سيجذب الكثيرين للقراءة؛ وكان ما كان والحمدلله ، وكم أتمنى أن ينتقل زخم المقال الماضي لهذا المقال لحساسيته وعظم أهميته فتعمّ الفائدة أكبر عدد ممكن.

إن لكل منا عيوب ونقائص، وأكمل الناس "أقلهم" عيوباً، فلا أحد يخلو منها إلا الواحد جل جلاله، وكفى بالمرء عيباً أن لا يعرف عيوبه، والناس في تفاعلهم مع عيوبهم أطيافٌ ومذاهب، ويمكن تصنيفهم بحسب ذلك إلى ثلاث مراتب لا تكاد تجد أحداً خارجاً عنها:

فأدناها وأحقرها من لا يعلم عيوبه ولم يسعَ قط لمعرفتها، فهو يظن نفسه كاملاً ولو قال بلسانه غير ذلك ، وإنك لو أخبرته بعيبٍ فيه مع اتباعك لكل ضوابط النصيحة كالسرية والتعريض وغيرها؛ لعبس في وجهك وتولى، وأضمر لك سوءًا وحقدًا، أو تراه يُنكِر ما تقوله أولاً، ثم يرميك بالغيرة والحسد، وينسى المسكين أن من أكبر العيوب الغضب من النصيحة أو العتاب ، ولقد استبقاك من نصحك وعاتبك ؛ وزهد فيك من تركك.

والجبناء من هذا الصنف تراه مبستماً أمامك إذا نصحته وأخبرته بعيوبه، وهو يكنّ لك في قلبه ناراً تلظى، فلا هو الذي صرّح بالعداوة والغضب في وجهك؛ ولا هو الذي أخذها بسلامة قلب ورحابة صدر، وجهه يبتسم لك وقلبه يلعنك، لأنه يرى أنك مسست كبرياءه، ولبئس العقل الذي يُريَ صاحبه هذا الرأي.

والمرتبة الأرفع منها الشخص المسالم، من لم يسعَ لمعرفة عيوبه بنفسه ولم يعرها اهتماماً ، لكنه إذا أدليت إليه بنصيحة أرعى لها سمعه، وأخذها بقلبه قبل أذنه، ثم شكرك عليها، وهؤلاء أكثر العامة والحمدلله، بعكس الصنف الأول الذي لا يشكل إلا نزراً يسيراً ممن خبُثت نفوسهم، واسودّت قلوبهم، بل وساءت سريرتهم قبل علانيتهم، فهؤلاء بُعداً لهم ؛ لا حزناً عليهم ولا أسفاً.

ثم تأتي المرتبة العليا وهم صفوة الصفوة ، وخاصة الخاصة ، من كان همهم في حياتهم رضا ربهم ورياضة نفوسهم، وإصلاح قلوبهم، لو عرّفت أحدهم بعيبه لكافأك مكافأة الممتن السعيد، ورضي عنك رضا الحبيب الشفيق، ومثلهم كمثل أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذ يقول؛ (رحم الله امرءًا أهدى إلي عيوبي) ..

 

وإن أولى خطوات الإصلاح والتغيير أن يقف المرء مع نفسه وقفة صادقة، خالية من شوائب الكبر والشهوة، فيتفكر في نفسه تفكّر المتصيّد للزلات، الباحث عن الثغرات، ويكتب ما يجده لئلا ينسى، وإن معرفة المشكلة لهي أول خطوات حلها، فيستعين بالله عليها واحدة واحدة، ولقد قال النبي صلى الله عليه وسلم؛ (إِنَّما العلمُ بِالتَّعَلُّمِ ، و إِنَّما الحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ ، و مَنْ يَتَحَرَّ الخَيْرَ يُعْطَهُ ، و مَنْ يَتَّقِ الشَّرَّ يُوقَهُ) ..

ولقد كان السلف رحمهم الله في منتهى الشدة عند تتبع عيوب نفوسهم؛ كتتبع الغريم المتربّص ، والعدو المتلصص ، والأمثلة أكثر من أن تُحصر هنا ، وحسبي وحسبكم بـ"علي ابن حزم الأندلسي" رحمه الله الذي كان له مع نفسه وقفات ووقفات ، وفي ظني أن عيوب نفسه كانت أشبه بعيوبنا ، وحاله قريبٌ من حالنا ، فقد نشأ وتربى منعّماً في بيت عزٍّ وغنى، تملؤه الأنفة وشعور الأنا، من مس له طرفٌ ناله من غضبه وسوء لسانه ما الله به عليم، وهو لم يبدأ في طلبه للعلم إلا حين بلغ ستاً وعشرين سنة، ويصف حاله مع رياضة نفسه وإصلاح عيوبه وصفاً دقيقاً صادقاٌ في كتابه "الأخلاق والسير في مداواة النفوس" الذي وضع فيه خلاصة تجربته في الحياة وما تعلمه منها ..






يقول؛

(فصل: وقفة مع النفس)

"كانت فيّ عيوب؛ فلم أزل بالرياضة واطلاعي على ما قالت الأنبياء -صلوات الله عليهم- والأفاضل من الحكماء -المتأخرين والمتقدمين- في الأخلاق وفي آداب النفس أعاني مداواتها؛ حتى أعان الله عز وجل على أكثر ذلك بتوفيقه ومنّه. وتمام العدل، ورياضة النفس، والتصرف بأزِمَّةِ الحقائق؛ هو الإقرار بها؛ ليتعظ بذلك متعظٌ يوماً -إن شاء الله-.

فمنها: كلفٌ في الرضاء، وإفراطٌ في الغضب، فلم أزل أداوي ذلك حتى وقفت عند ترك إظهار الغضب جملة بالكلام والفعل والتخبط، وامتنعت مما لا يحل من الانتصار، وتحمّلت من ذلك ثقلاً شديداً، وصبرت على مضضٍ مؤلم كان ربما أمرضني، وأعجزني ذلك في الرضا، وكأني سامحت نفسي في ذلك لأنها تمثّلت أنّ ترك ذلك لؤم.

ومنها: دعابةٌ غالبة؛ فالذي قدِرتُ عليه فيها إمساكي عما يغضب المُمازَح، وسامحت نفسي فيها إذ رأيت تركها من الانغلاق ومضاهياً للكبر.

ومنها: عُجبٌ شديدٌ؛ فناظرَ عقلي نفسي بما يعرفه من عيوبها حتى ذهب كله، ولم يبق له -والحمد لله- أثر؛ بل كلّفت نفسي احتقار قدرها جملةً ؛ واستعمال التواضع.

ومنها: حركاتٌ كانت تولّدها غرارةُ الصِّبا، وضُعف الإغضاء، فقَصَرتُ نفسي على تركها فذهبت.

ومنها: محبةٌ في بُعد الصيت والغَلَبَة، فالذي وقفت عليه من معاناة هذا الداء الإمساك فيه عمّا لا يحل في الديانة، والله المستعان على الباقي ... .

 ومنها: إفراطٌ في الأنفة بغّضَت إليّ إنكاح الحريم جملة بكل وجه، وصعُب ذلك في طبيعتي، وكأني توقفت عن مغالبة هذا الإفراط الذي أعرف قبحه؛ لعوارضَ اعترضت عليّ، والله المستعان.

 ومنها: عيبان قد سترهما الله تعالى، وأعان على مقاومتهما، وأعان بلطفه عليهما، فذهب أحدهما ألبتة -ولله الحمد-؛ وكأن السعادة كانت موكّلة به؛ فإذا لاح منه طالعٌ قصدت طَمسَه، وطاولني الثاني منهما فكان إذا ثارت منه مدوده نبضت عروقه، فيكاد يظهر؛ ثم يسّر الله قَدعَه بضروب من لطفه تعالى حتى أخلد.

ومنها: حقدٌ مفرط؛ قَدَرتُ -بعون الله تعالى- على طيّه وستره، وغَلبتُه على إظهار جميع نتائجه، وأما قطعه ألبتة فلم أقدِر عليه، وأعجزني معه أن أصادق من عاداني عداوة صحيحة أبداً.

وأما سوء الظن فيعدّه قوم عيباً على الإطلاق -وليس كذلك- إلا إذا أدّى صاحبه إلى ما لا يحل، وأما الذي يعيبني به جُهّال أعدائي من أني لا أبالي فيما أعتقده حقاً عن مخالفة من خالفته ولو أنهم جميع من على ظهر الأرض، وأني لا أبالي موافقة أهل بلادي في كثير من زيهم الذي قد تعودوه لغير معنى؛ فهذه الخصلة عندي من أكبر فضائلي التي لا مثيل لها، ولعمري لو لم تكن فيّ وأعوذ بالله لكانت من أعظم متمنياتي وطلباتي عند خالقي عز وجل، وأنا أوصي بذلك كل من يبلغه كلامي؛ فلن ينفعه اتباعه الناس في الباطل والفضول إذا أسخط ربه تعالى وغبن عقله، أو آلم نفسه وجسده، وتكلّف مؤونة لا فائدة فيها."

 

هذا مثالٌ بسيطٌ عمّن صبروا على مجاهدة نفوسهم؛ سردته لكم لأشحذ به هممكم ، وأقوّي عزائمكم ، وليتذكر منكم من كان له قلب ، وإن لا يضيع أجر من أحسن عملاً.

 

في أمان الله

 

 

 

عبدالله الحماطي


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

26 سبتمبر – يوم من أيام الله

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال

القاتل الوسيم .. ورسالة للآباء !