قصتي مع ستيف بن زئبق


قصتي مع ستيف بن زئبق

 



أحكي لكم اليوم حكاية غريبة عن رجلٍ غريب ، قصته شبيهة بالقصص التي تمر على أسماعنا من باب الغرائب .. ولولا أنني طرفٌ فيها لم أكن لأصدقها ..

دعوني بداية أتقدم بمقدمة بسيطة يتبين بها طرف الكلام ..

لطالما طرأ على أسماعنا حسنات الرجل الغربي وانضباطه ونظامه، ابتداءً من أبسط أمور حياته إلى أكبرها وأعظمها ، فلذلك دانت له الأمم ، ودالت الأيام له ، وسطعت شمس الحضارة من بلاده ، وكان دائماً في نفسي من هذا الكلام شيء؛ بل حتى قبل مجيئي لرأس الغرب والكفر الولايات المتحدة الأمريكية ، ولم أزل أجادل فيه وأناظر، لكنها كانت مناظرة الأعمى الجاهل ، لا البصير العالم بواقع الحال ، وكل زادي كان من قيلٍ ومن قال ..

فعند وصولي إليها ومكوثي فيها ما شاء الله أن أمكث ، وبمخالطتي للرجل الغربي يومياً -لطبيعة عملي- زال عن عيني عَشَاها ، واتضح لي ملء العقول من خواها ، فأيقنت يقيناً لا يخالطه الريب ولا ينازعه الشك؛ كذب تلك الادعاءات، ولربما كانت تلك الدعاية نوعاً من أسلحة المستشرقين الناعمة، أو خنجراً مسموماً من خناجر المستغربين الخائنة -وربما كانت عن جهل لا عن خيانة-،  وإن هم إلا كالأنعام "حرفياً" بل أضل سبيلاً ..

أسير في طرقاتهم فأرى الشريد لا مأوى له ، والفقير لا معين له ، ويمر الناس بطريحٍ على قارعة الطريق؛ ولا يُدرى أحيٌّ هو أم ميت، فلا تجد من يستعلم الأمر منه أو عنه، وتتخطاه الأقدام تخطيها النجاسة أو النخامة على الأرض، وكأن شيئاً لم يكن أصلاً ! ..

عقولهم أخوى من القربة البالية ، والهوى قائد نفوسهم الدنيئة ، لا إله إلا اللذة ، ولا معبود إلا الرغبة ، ولا حياة إلا الدنيا ، وهم حتى في أبجديات الحياة تأبى نفوسهم مثلاً عن الاستنزاه من الحدث والجنابة، عمرانٌ شاهقٌ وجدرانٌ مرصوصة؛ وبيت الخلاء فيه أقذر من حظيرة بهائم ..

ثم بعد ذلك قائلٌ يقول : تقدموا علينا بالأخلاق والانضباط والرقي !! ..

إن هذا إلا نزرٌ يسير فقط مما عاينته، وقد تختلف درجة انحطاط أحدهم بانحطاط نفسه وهمته وخلقه، وكنت قد يئست منهم إلا ما كان من بقية باقية؛ لديها شيء قليل من عقل يريني الله به بصيص أملٍ لهدايتهم ..

عموماً؛ فقد كنت أتصيد هذا القليل اصطياداً ، وأقتنصه اقتناصاً ، علّ الله عز وجل أن ينقذه على يدي ، فتارة أطرح شبهة عليهم، وتارة أسأل "سؤال المستعلم" عن تناقضٍ في دينهم، وتارة أستفسر عن سر الشر والظلم، وتارة أعرض فكرة حتمية يوم للقصاص بين العباد، علني أستنهض بذلك فكر لبيبٍ حاذقٍ فأجعله يتساءل، وإن عُدمت الجدوى من محاججة أحدهم أدفع إليه مصحفاً بلغته عله يفتح الصفحة الأولى ويقرأ (ذلِكَ الْكِتابُ لَا رَيْبَ فِيهِ) فيستمر بالقراءة متحدياً فيكون ذلك سبباً في نجاته.

وكانت من عادتي في أوقات فراغي من العمل أن أجلس في مقهى بجوار منزلي، أحتسي فيه القهوة بصحبة كتاب أو لابتوب، وكنت أتنقل بين مقهيين في حيّنا، فتارة هنا وأخرى هناك، والعجيب أنني في كل مرة أذهب إلى أحدهما أجد شخصاً غريب الهيئة ، ذا ملامح شرق أوسطية، كثّ اللحية غزيرها غير مهذبة إطلاقاً ، كأنما يتسلق الشعر عبر وجنتيه إلى عينيه، قد ملأ البياض لحيته ورأسه، ودائماً ما يكون الرجل بصحبة كتب سوداء ضخمة كأنها من كتب السحر القديمة ، فلا تجد على أغلفتها نقشاً ولا عنواناً، وكانت من عادتي أن أختلس النظر إلى من يقرأ بجواري لأعلم عنوان كتابه فأبحث عنه في الإنترنت، وهذا فضولٌ مني عافاني الله منه، فكانت كتب الرجل السوداء القديمة تثير استغرابي ..

والمنطقة التي أقطنها ليس بها عرب إطلاقاً، فكنت العربي الوحيد فيها، فاستبعدت أن يكون الرجل ذو الملامح الشرق أوسطية عربياً، فقلت في نفسي لعله بروفيسور جامعي يهودي ، فملامح اليهود شبيهة بملامح العرب، وكتبه ونظارته الكبيرة ولحيته الغير مهذبة جعلتني أظن أنه بروفيسور جامعي ..

في كل مرة أدخل إلى أحد المقهيين تلتقي أعيننا ببعض، ثم يمضي كل منا إلى شغله، ولعله ميّز ملامحي كما ميزت ملامحه، ولا أبالغ أننا ربما التقينا في المكان نفسه أكثر من 10 مرات !! ..

وفي أحد المرات كنت قد دخلت المقهى وجلست على أحد الكراسي، وإذا به يدخل بعدي بكتبه الضخمة وتلتقي أنظارنا مباشرة كالعادة ..

فابتسم الرجل حينئذٍ وقال لي: (Everywhere !) .. (في كل مكان! (

فبادلته الابتسامة والتحية ومضى كل منا إلى شغله ..

وبعد ذلك الموقف بأيام دخلت المقهى ولم أجد مقعداً فاضطررت للولوج إلى الداخل أكثر علني أجد مكاناً شاغراً؛ وعندئذٍ صادفت الرجل في وجهي مرة أخرى !!

في مثل هذه المواقف تتسلل الهواجس إلى النفس، وتهب رياح الخوف من بعيد ، ويبدأ العقل بسرد أسئلة تزيد الأمر سوءاً ..

هل هذا طببيعي؟

أتكون هذه اللقاءات مصادفة؟

أهو من رجال المباحث ومُكلّف بمراقبتي؟

ثم إن يقيني أنه يهودي ربطه في عقلي بكل شيء سيء ..

وما أن رآني الرجل حتى قام لي هذه المرة وصافحني مبتسماً، وجلسنا في طاولة واحدة يحتسي كلّ منا قهوته مع الآخر، ويبدو أن تكرار الرؤية صنع نوعاً من الألفة والمودة بيني وبينه، وكأن علاقتنا قديمة، وهذا طبعاً مع تحفظي وتوجسي خيفة منه حتى هذه اللحظة !

ومختصر ما دار بيننا هو التالي:

الرجل: ما اسمك يا صديقي؟

أنا: عبدالله، وتستطيع أن تناديني "علي" ليسهل الأمر عليك .. (لأن الأعاجم يصعب عليهم نطق عبدالله، فأجعلهم ينادونني باسم أبي؛ علي)

ابتسم الرجل وقال: لا عليك ، زوجتي اسم جدها عبدالله عبدالأحد ..

تفاجأت كثيراً .. أليس يهودياً كما أعتقد؟؟

ثم أخبرته أنني من اليمن فابتسم وقال: أستطيع أن أرى ذلك .. وجهك وجه عربي تماماً !

دائماً ما أسمع هذه الجملة، وتسعدني كلما قالها لي أحدهم، أّذكر قبل بضع سنوات أتاني طالب ماليزي معي في الجامعة وقال لي أن وجهي وجهٌ عربيٌ أصليٌ وليس كبقية العرب، فملأني والله بالنشوة حينئذٍ !

عموماً عرف الرجل أنني عابر سبيل هنا وسأخرج من البلاد قريباً ، وأحسست أن الحديث يدور حولي أنا فقط، وإلى الآن لم أعرف أي شيء عن الرجل إلا أسم أجداد زوجته !

- ما اسمك؟ ومن أين أنت يا صديقي؟

- أنا من فلسطين ولكني ولدت هنا في أمريكا .. ولقد زرت البلاد العربية فذهبت إلى مصر والبحرين وتركيا وأتمنى أن أزور بلدك اليمن يوماً ما ..

- ألم تذهب لفلسطين من قبل؟

- نعم ذهبت إليها، ولكني تعرضت لإهانة كبيرة هناك، فعندما وصلت إلى المطار أخرج العساكر كل الركاب إلا أنا .. وبقيت وحيداً في الصالة أنتظر ، وكأنهم أرادوا إهانتي ..

- أين حصل ذلك؟ في غزة أم القدس؟

- كان ذلك في تل أبيب ..

- أوووه تل أبيب ! .. ربما أرادوا إهانتك لأن اسمك عربي ..

- اسمي ستيف ..

هنا أخذتني دهشة بسيطة بذلت جهدي لإخفائها ، فلسطيني اسمه ستيف !

ثم قلت: واسم أبيك؟

- اسمه زايبك .. اسمه عربي على ما أظن

- أول مرة أسمع هذا الاسم ! ما معنى زايبك؟

- زايبك يعني(Mercury)  = تعني زئبق باللغة الإنجليزية

- آآآها .. زئبق  ..

- نعم زايبك ، وجدي اسمه صالح ..

- ستيف بن زئبق بن صالح ، لذلك أوقفوك ، اسمك يحمل معنى عربي مسلم ..

- نعم ، نحن من رام الله ، هاجر جدي إلى أمريكا عام 1976م بعد الحرب، وأنا ولدت هنا، ولكنني لا أعرف العربية ، وأحاول الآن تعلمها ..

فابتسمت له وقلت: أستطيع تعليمك إن أردت ..

ثم بدأ بسرد بعض الكلمات والجمل العربية التي يعرفها وتعلمها، وبعدها قال لي: أريد أن أتعلم العربية لأعرف الدين الإٍسلامي ..

فاستغربت من كلامه، فأخبرني أنه شبه ملحد، ويتمنى أن يجد الدين الصحيح ..

ثم فتح أمامي أحد كتبه السوداء الضخمة القديمة وقال لي انظر ..

فنظرت فإذا هو إنجيل قديم، الصفحة اليمنى باللغة الإنجليزية واليسرى باليونانية ..

فقلت : أوه .. تتحدث اليونانية؟؟؟!

ثم مد لي كتاباً آخر؛ وإذا هو إنجيل قديم آخر باللغة الإنجليزية ، ثم مد لي ثالثاً وإذا به يونانياً بالكامل، وقال لي أن هذا أقدم إنجيل يوناني استطاع الحصول عليه، تمت كتابته بعد المسيح بـ600 سنة ..

سألته ما كل هذا ؟!

فقال : لقد تعلمت اليونانية لأستطيع أن أقرأ الإنجيل الأصلي المكتوب باللاتينية القديمة، لأدرس الديانة المسيحية الحقيقية، ولقد درست اليهودية من قبل، وأطمح لتعلم العربية لأدرس كتابكم .. القرآن ..

أنا هنا صعقت تماماً ..!

أي رجل هذا ؟!!

فوراً تذكرت قصة سلمان الفارسي رضي الله عنه وسعيه بحثاً عن الحقيقة، والحديث المشهور الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه فقال: (قالَ ناسٌ من أصحابِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ : يا رسولَ اللَّهِ مَن هؤلاءِ الَّذينَ ذَكرَ اللَّهُ إن تولَّينا استُبدِلوا بنا ثمَّ لا يَكونوا أمثالنا؟ ، قالَ وَكانَ سلمانُ بجنبِ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ قالَ: فضربَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ فخِذَ سلمانَ وقالَ: هذا وأصحابُهُ، والَّذي نفسي بيدِهِ لو كانَ الإيمانُ منوطًا بالثُّريَّا لتناولَهُ رجالٌ من فارسَ)

وها أنا ذا أجلس مع رجلٍ من طينة أولئك الرجال !!

وكأنه هبة من ربنا ساقها الله إلي ..

سألته : أقرأت القرآن باللغة الإنجليزية من قبل؟

قال: ليس بعد، ولكن قريباً ..

فتذكرت أن معي نسخة إنجليزية في حقيبتي، كانت إحدى الموظفات المكسيكيات في عملي قد طلبتني قرآن باللغة الإسبانية لأنها تريد معرفة الإسلام، فذهبت إلى المسجد الذي توزع فيه المصاحف وأخذت أحدها على عجالة ظناً مني أنه إسباني، وعندما أعطيتها إياه ردته لي وقالت أنه إنجليزي، فوضعته في حقيبتي لأرده للمسجد وأستبدله بآخر إسباني .. وإذا بي الآن أجلس مع ستيف وأتذكره في حقيبتي ..

فأخرجته وأخبرته أن هذا هدية مني له ، فسُرّ بذلك جداً ، وراح يتفحصه ويتصفحه، ثم قال لي : أتعلم يا عبدالله، أكثر ما يميز دين الإسلام أن كتابكم واحد، إن أخذت نسخة من هنا ونسخة من بلد آخر بعيد ستجدها متطابقة بعكس الإنجيل الذي قد يختلف باختلاف الشركات التي تطبعه !

ثم دخلنا في نقاش ديني طويل، كان يطرح علي أسئلة عن الإسلام وكنت أجيبه مستعيناً بالله لئلا أخطئ في إجابة فيظن الخطأ من الإسلام وليس مني، ثم إن لغتي الإنجليزية ليست بتلك اللغة الأكاديمية ذات المصطلحات العميقة، ولكنني أشهد بالله أن ستيف قد استمع إلي استماع الباحث عن الحق، فيستوقفني عند كل كلمة لا يفهمها مني، ويختار أبسط الألفاظ ليسألني، وهو مقبلٌ علي بوجهه وجسده، مائلٌ إلي بظهره؛ ميلان من لا يريد أن يفوته شيء مما أقوله ..

وكان مما سألني إياه ..

- لماذا تتشابه القصص في التوراة والإنجيل والقرآن؟

- اليهود يشبهون المسلمون في العقيدة بأن ليس لديهم واسطة بين الخلق والخالق، أما النصرانية فلديهم المسيح وروح القدس بين الخلق والخالق ؛ لماذا؟

- كان هناك يهود عرب في زمن النبي محمد، والذي في القرآن يوافق التوراة، فلماذا لم يؤمنوا به؟

- سمعت أن هناك سلسلة من الأسماء التي انتقل عبرها القرآن ، من النبي محمد وحتى يومنا هذا، ولذلك لم تختلف نسخ القرآن ، صحيح؟ وكيف ذلك؟

- ما هو رأيك في عقيدة الثالوث المسيحية؟

- مالفرق بين القرآن والحديث؟  )استغربت عندما سمعته يلفظ كلمة Hadeeth ، أيقنت أنه قد اطلع على الموضوع)

هذه بعض الأسئلة وهناك غيرها مما جرّه الكلام، ولقد كان ستيف بعد كل إجابة يسكت قليلاً ويهز رأسه ويحك لحيته ثم يدخل علي بسؤال آخر؛ وهكذا ..

وبعد أن مضى على جلوسنا أكثر من ساعة استأذنته بالذهاب ، فقال لي : لااااا .. إلى أين؟؟؟ .. لدي الكثير من الأسئلة بعد !!!! .. اجلس قليلاً أرجوك ..!

مع ردة فعله هذه أيقنت أنني لم أرتكب أخطاءً في إجاباتي، فحمدت الله وأنا والله في قمة التوتر، كنت أحس بضغط شديد ولا أريد أن أفقد تركيزي ..

جلست معه مرة أخرى واستمر حديثنا قرابة عشرين دقيقة أخرى وبعدها استأذنته بالذهاب مرة أخرى لأن وقت دوامي قد حان .. فصافحني بحرارة وودعني بعد أن أخذ رقم هاتفي وأخذت رقم هاتفه ..

وطلب مني أن أرسل له رسالة في أي وقت أكون فيه في المقهى ليأتيني .. فقلت في نفسي ساخراً؛ وكأننا لم نكن لنلتقي في المقهى إذا لم أرسل لك رسالة !! .. ثم ذهب كل منا في سبيله.

 

جلست أفكر في ستيف مدة طويلة، ما أتعس ستيف المسكين لئلا يجد من يرشده للإسلام غيري، أتمنى من أعماق قلبي أن يهتدي للإسلام ويعود لدين آبائه وأجداده من جديد، فهذا أكثر ما أحزنني ، ستيف سليل العرب لا يتكلم العربية ، نسل المسلمين ولا يعرف من الإٍسلام إلا اسمه ! ، وكأنه رسالة من رب العالمين بأن لا أدع أبنائي يكبروا في بلاد الكفر هذه، وأني إن ضمنت بقاء ابني على الإسلام فلن أضمن بقاء حفيدي عليه والله المستعان، وليس للعربي إلا بلاد العرب مهما طال الزمن ..

 

لا تنسوا ستيف من دعائكم .. والحمدلله رب العالمين

 

 


عبدالله الحماطي


تعليقات

  1. سلام عليكم ، أرجو أن تكون بصحه وعافيه ، استمتعت جداً بالقراءة ولسردك القصه ولكن كنت أتمني أن تكون نهايه سعيده ، ولكن نسأل الله ياشيخ حماطي أن يكون هذا الرجل اهتدى للاسلام. استمر وبالنجاح والتوفيق

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

26 سبتمبر – يوم من أيام الله

102 عام على مذبحة قافلة الحجاج اليمانية

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال