كيف نطمح لسيادة الشريعة على مستوى الدولة ونحن لا نستطيع تطبيقها على أنفسنا؟!
كيف نطمح لسيادة الشريعة على مستوى الدولة ونحن لا نستطيع تطبيقها على
أنفسنا؟!
سؤال استوقفني سمعته من الأستاذ عمرو عبدالعزيز -صاحب كتاب دين
المؤتفكات والإسلاموطوبيا وغيره- في أحد فيديوهاته فأخذني بعيــــداً ..
جميعنا (من كان صحيح الإسلام) نحلم بأن تُطبق الشريعة الإسلامية في بلادنا،
بل وأكثر من ذلك؛ نحلم بأن يكون العالم كله خاضعاً لحكم الله وحده لا شريك له،
مذعناً لسلطانه، وأن تبسُط الشريعة سيادتها على الجميع .. نعم هذا حلمنا جميعاً،
الحلم الذي نعلم يقيناً أنه سيتحقق يوماً ما كما وعدنا رسولنا صلى الله عليه وسلم،
طال الزمان أم قصر، فنسعى لأن تكون لنا يدٌ في نصرة هذا الدين المنصور، ومساهمة
ندخرها ليومٍ تشخص فيه الأبصار ..
لكننا إذا قلّصنا نطاق الرؤية أكثر وأكثر، وحاولنا إزالة رواسب
الجاهلية المعاصرة من قلوبنا -أو تحييدها على أقل تقدير- كي ننظر في أمرنا بلا
"فلاتر"؛ علمنا أننا أبعد ما نكون عن تحكيم الشريعة، وأننا أقرب إلى
الوهم منا إلى الإيمان الحقيقي، كلامٌ نردده لا يجاوز حناجرنا ..!
سيادة الشريعة أمرٌ مرتبط بكل مناحي الحياة ونطاقاتها؛ فالمسلم عليه
أن يحيا تحت ظل أحكام الشريعة؛ في نفسه ومجلسه وطريقه وسوقه وبيته ومجتمعه ودولته
وعالمه، والكثير من المسلمين لا يعني بتحكيم الشريعة إلا في مجال الدولة أولاً ثم العالم
إذا أتى المهدي فقط كما يظن!.
سأضرب لكم صوراً من "عزل الشريعة" يمارسه كثيرٌ منّا دون أن
يشعر ..
يدخل الشيطان بين المرء وزوجه، ويوقع بينهما العداوة والبغضاء حتى
تثور ثائرة الزوج فيُطلّق زوجته، ويأمرها أن تخرج من البيت فوراً إلى بيت أهلها،
فإن قيل له أن إخراجها من المنزل لا يجوز، وأنه آثم بفعلته؛ قام وتململ وتغمغم، ثم
أعرض عنك مكفهرّاً نائياً بجانبه ..
فأين سيادة الشريعة وتحكيمها والخضوع لها..؟
قال تعالى في أول سورة الطلاق التي يحفظها الصغار قبل الكبار:
(يا
أَيُّهَا النبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ
وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ
بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ
نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا)
يقول القرطبي مفسراً الآية:
"أي
ليس للزوج أن يخرجها من مسكن النكاح ما دامت في العدة، ولا يجوز لها الخروج أيضاً لحق
الزوج إلا لضرورة ظاهرة، فإن خرجت أثمت ولا تنقطع العدة .. (لَا
تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) الأمر الذي يحدثه الله
أن يقلب قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة
الطلاق إلى الندم عليه، فيراجعها"
ومنه
أيضاً ما صرنا نسمعه في أيامنا من اختصام المرأة مع زوجها دون وجه حق لأمرٍ منعها
إياه، أو شيء عجز أن يلبيه لها، أو أمرٍ تأباه أمرها به، ثم لا يزال الشيطان بها
موغراً في صدرها ولاعباً بعقلها حتى تذهب تلك الناشز إلى القاضي وتستعين بسيف
القضاء الجائر والأحكام الوضعية للخُلع على زوجها، فينكسر ظهر المسكين بالتعويضات
والغرامات والعقوبات التي لا قِبل له بها، فإن قيل لها اتقي الله فهذا لا يجوز،
وأن ليس لكِ ولا عليه إلا ما فرضه الشرع؛ تولّت متأفّفة وهي تقول: ننتصر على
الرجال بالقانون لأن الدين لا ينفع معهم، وأنا لا أستحق ما جرى لي!!
فأين سيادة الشريعة وتحكيمها والخضوع لها..؟
روى ابن ماجة عن عبد الله بن أبي أوفى
أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لو كنت آمراً أحداً أن
يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها، والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة
حق ربها حتى تؤدي حق زوجها، ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه"
والقتب
هو رحل صغير على البعير ..
وروى الإمام
أحمد والحاكم عن الحصين بن محصن أن عمةً له أتت النبي صلى الله عليه وسلم في حاجة،
ففرغت من حاجتها ..
فقال
لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أذات زوج أنت؟
قالت: نعم
قال:
كيف أنت له؟
قالت:
ما آلوه إلا ما عجزت عنه. (أي لا أتوانى في حقه وخدمته)
قال:
فانظري أين أنت منه، فإنما هو جنتك ونارك."
أي هو
سبب دخولك الجنّة إن قمت بحقّه، وسبب دخولك النار إن قصّرت في ذلك، والآن صارت كلمة
النبي صلى الله عليه وسلم أنه جنتها ونارها محل استهزاء عند كثير من النساء .. ثم
انظري يا أختاه؛ إن كان مجرد التقصير قد يودي بك إلى النار، فما بالك أيتها
المسلمة إن تعدى الأمر من التقصير في حقه إلى الظلم والبهتان ؟!.
ومما
يحصل عند كثير منا أن يختصم الرجل مع أخيه، فيُعرِض هذا ويُعرض هذا، وكلٌّ يلوم
صاحبه، ثم يجلسان بحضرة من يسعى بينهما بالصلح ليتحاكما إليه، وعندما يشير الحكم
على أحدهما باللوم وأن الخطأ عليه؛ يأبى ويستكبر ويماري ويجادل، وتأخذه العزة
بالإثم ..
فأين سيادة الشريعة وتحكيمها والخضوع لها..؟
ومنها أيضاً ما نسمعه في أرياف وبادية عدداً من بلداننا الإسلامية كصعيد
مصر وجنوب المغرب وموريتانيا من قصص لا يحسب سامعها إلا أنها من حكايا العرب في
الجاهلية، كأن يقتل رجلٌ رجلاً ما، فتقوم قبيلة الميت إن كان شريفاً أو سيداً برفض
القصاص من القاتل إن لم يكن سيداً أو شريفاً، فيطالبوا بأن يقتلوا من قبيلة القاتل
رجلاً شريفاً كقتيلهم، فإن قيل لهم أن هذا ظلم، ولا يجوز القصاص إلا من القاتل
فقط؛ قامت الدنيا ولم تقعد! .. فيصرّوا جميعاً على رأيهم، بل وإن قُتِل القاتل
الحقيقي فلا يعتبروه قصاصاً أبداً حتى يقتلوا سيداً منهم !.. ومن قصصهم أيضاً أنك
تجد الرجل منهم وإن كان متديناً وأبناءه مثله إلا أنه إن مات فإنهم يمنعون أختهم
من ميراث أبيها .. لماذا؟ حتى لا يذهب المال إلى زوجها وتخرج الثروة من أفراد
العائلة..!
فأين سيادة الشريعة وتحكيمها والخضوع لها..؟!
ومن صورها على النطاق الضيق مثلاً والتي تحدث لأغلبنا أن يُنكر الرجلُ
على الرجلِ أمراً من الأمور، ويبين له حرمته في الدين، فيخبره الآخر أن المسألة
خلافية، فينهره الأولُ ويزجره، ويبين له أن الخلاف في المسألة غير معتبر، ولا
يُجوّز له اتباع الرأي المخالف، ويحذره من تتبع الرُخص لئلا يتزندق، ثم تجد هذا
المُنكِر نفسه بعد ذلك يُقدِم على أمرٍ من الأمور المشتبهة، فيجد أن الأمر لا
يجوز، فلأنه مُصرٌ عليه وقلبه معلقٌ به؛ تراه يبحث بينه وبين نفسه في المسألة عن
أقوال ترخص له الأمر ليفعله مرتاح الضمير ..
فأين سيادة الشريعة وتحكيمها والخضوع لها..؟!
إن معنى الإسلام هو الاستسلام والانقياد، التسليم الكامل لأوامر الله
ونواهيه، التزاماً تلتزم به على نفسك وغيرك، في باطنك وظاهرك، سرك وعلانيتك، عند
ضعفك وقدرتك ..
تدبر معي يا قارئي العزيز هذه الآيات الخمسة من سورة النور، وكأنها
تصف من تكلمنا عنهم، أعاذني الله وإياك من نكون منهم ..
(وَيَقُولُونَ
آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ
مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى
اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ
(48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي
قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ
قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ
بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ
(51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ
هُمُ الْفَائِزُونَ (52))
يقول السعدي
رحمه الله في تفسيره للآيات:
"(إِنَّمَا
كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ) حقيقة، الذين صدقوا إيمانهم بأعمالهم حين يدعون إلى
الله ورسوله ليحكم بينهم، سواء وافق أهواءهم أو خالفها، (أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا
وَأَطَعْنَا) أي: سمعنا حكم الله ورسوله، وأجبنا من دعانا إليه، وأطعنا طاعة تامة،
سالمة من الحرج. (وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) حصر الفلاح فيهم، لأن الفلاح:
الفوز بالمطلوب، والنجاة من المكروه، ولا يفلح إلا من حكم الله ورسوله، وأطاع الله
ورسوله."
جعلني الله
وإياك ممن إذا سمعوا حكم الله قالوا سمعنا وأطعنا.
تعليقات
إرسال تعليق