العجوز الصينية وكأس العالم !

 

العجوز الصينية وكأس العالم !



أسير وحيداً في قلب مدينة كالغري المكتظة نهاراً، أفكر فيما مضى وما هو آت، أنظر في حالي وفي غيري، أصارع عقلي المشتت، تارة يسيطر علي وتارةً أسيطر عليه .. يستفزني ما أراه من حولي فيزداد عقلي شتاتاً .. لكأن قدمي تسير بإرادتها وأنا غير آبهٍ بها، ولم يُعِد إلي وعيي لما حولي إلا تلك العجوز الصينية ! ..

وقفت أمامي بابتسامة البؤساء، وأخاديد وجهها التي حفرتها السنين .. تنظر إلي وبيدها ورقةً تمدها وهي تُتمتم بما لا أفقهه، تخونها لغتها الإنجليزية فتمزج بها لغتها الصينية، لم تكن تظن في سالف الأيام أنها ستحتاج هذه اللغة الأجنبية يوماً ما، لكن الزمان يأبى إلا أن يدور دورته واضطرها وهي في أرذل العمر لئن تقف في قارعة الطريق تستجدي من "ينصت إليها" .. عفواً .. أقصد من يصبر عليها ..

أخذت منها الورقة وقلبتها بين يدي محاولاً معرفة ما تريد، فوجدتها ورقة لتجميع التوقيعات، وهي تحاول أن تطلب مني أن أوقع لها في الورقة ..

هنا التفت ناظراً إليها شزراً ..!

وحاولت الاستفسار منها عن القضية التي يُجمع لأجلها هذه التوقيعات، لئلا أشارك فيما يتعارض مع مبادئي وديني كالانتصار للمخانيث أو قمعاً لإخواننا الأويغور أو تحريضاً ضد فلسطين أو غيرها..!

فمدّت إلي منشوراً من حقيبتها لأقرأه، فوجدته بعنوان: أوقفوا الـCCP !

كانت في غاية الحماس أن وجدت من يقف لها ويلتفت لأوراقها، فليس من السهل في مثل هذه البلدان أن تستوقف شخصاً ماراً، لأنك باقترابك من أحدهم ستُعامل كمصدر خطرٍ محتملٍ لهذا المار ..

لم أفهم من المقصود بـCCP ، وبعد فحصٍ ونظر علمت أنه اختصار للحزب الشيوعي الحاكم في الصين، وأن المنشور الذي معي فيه تنديدٌ واستنكارٌ لجرائم هذا الحزب الملعون ..

Chinese Communist Party

علمت أن هذه الصينية قد تكون أويغورية مكلومة أو زوجة معتقل صيني أو أم ثكلى فقدت ابنها على أيدي العصابة الحاكمة الصينية؛ فهيّجت قلبي ..

أخرجتُ القلم ووقعت لها مع قائمة الموقعين، وهي تكاد تطير فرحاً ..

تمنيت لو أستطيع أن أتواصل معها لأعرف قصتها وأُلِمّ بخبرها ..

ودّعتها ومضيت في سبيلي، وهي استمرت في مهمتها بالتقرّب من المارة وحضّهم على التوقيع ..

شغل موقف العجوز الصينية تفكيري، وصارت عنوان مسيري وطريقي ..

مسكينة تلك العجوز؛ تظن أن العالم سيلتفت إلى توقيعاتها..!

تظن أن الغرب الذين تستجديهم سيَفي بكلماته التي يصيح بها، عدالة .. مساواة .. محبة .. حقوق إنسان ...!

شاركتُ معها وأنا موقنٌ أن مشاركتي هي في الحقيقة مواساة عاطفية فقط، فلستُ منتظراً من الغرب المنافق شيئاً ..

لقد كان عام 2022 مفصلياً ومفيداً للمُصلحين، فقد افتُضِح الغرب المنافق في هذه السنة فضيحةً عجزت أن توصلها جحافل المصلحين وقد بحّت أصواتهم لقلوب المسلمين، كان الغرب كالمرأة التي يظنها الرائي أول مرة حسناء فاتنة تخلب اللبّ وتُذيب هياماً بها القلب، لكنها لم تكن إلا صورة مصطنعة لحسناء تخفي تحت قناعها ولباسها عجوز شمطاء عفنة كريهة الطبع والريح!

في هذه السنة قامت الحرب الروسية الأوكرانية، وعند الشدائد تظهر خبايا النفوس وبواطنها .. فارتكب الغرب كل ما يخطر ببالك من عقوبات وإجراءات على كل ما يمتّ للروس بصلة ! .. أموال روسية في البنوك جُمّدت، صفقات روسية أوقفت، سفن تجارية وسياحية روسية سُرِقت .. بل وحتى في الرياضة؛ تم استبعاد منتخب روسيا من كأس العالم ومن كل البطولات والألعاب، وتم مصادرة أموال مُلّاك الأندية الروس وطردهم .. 

لم يرَ العالم نبذاً واحتقاراً وحصاراً لدولة من الدول كما فعل الغرب بالروس، وكل ذلك كان بسبب اعتداء الروس على شقيقتهم أوكرانيا، مع أن ضحايا وخسائر أوكرانيا لا تساوي عُشر معشار ما تكبده إخواننا السوريين من العدوان الروسي من قبل .. إبادة للعباد والبلاد ولم يُحرّك الغرب لها ساكناً ! .. بل على العكس تماماً؛ فقد ذهب العالم الأجمع للعب كأس العالم في روسيا عام 2018م في الوقت الذي كان القصف الروسي يُسَوِّد حلب وأهلها حرقاً ! .. يشعر كل مسلم له قلب حي وكأن رقصهم وطربهم يومئذٍ كان على دمائنا وجماجمنا .. ولا داعي لأن أذكر مواقفهم مع اللاجئين الفارين من الأراضي الأوكرانية، فالتعامل يختلف جذرياً إن لم تكن رومياً علجاً كافراً، هذه الثلاثة هي صفات من يستحق المعاملة الكريمة فقط.

مسكينة تلك العجوز الصينية؛ قد فقدت كل حيلتها ولم يبق لها إلا الاستعانة بالمنافقين!

لو كان التِّكلَّام الضبعي واقفٌ موقفي مع العجوز أو رأى حالنا فلن يتوانى عن وصف العجوز ببيته المشهور:

المستجير بعمروٍ حين كُربته

كالمستجير من الرمضاء بالنارِ

 

مسكينة تلك العجوز الصينية؛ لو كان للإسلام دولة وشوكة ومنعة واستجارت بهم لأجاروها ونصروها ..

خطفت عصابات هندية نساء من إحدى السفن الراسية على سواحل الهند، فسمع بهم الحجاج بن يوسف على ظلمه وتحركت نخوته، فحرّك العساكر الأموية من أجلهنّ وحرّرهن، وسمع الحاجب المنصور أنباء أسيرة مسلمة في بلاد النصارى تستغيث به من تعذيب سيّدها، فحرّك عساكره الأندلسية وحرّرها، وسُجن الملك الفرنسي فرانسوا الأول جراء فتن حصلت في بلاده، فأرسل استغاثة للسلطان سليمان القانوني حرّك على إثرها الانكشارية لنصرته .. فلو كان للإسلام دولة موحدة قوية متماسكة كيف سيكون حالنا الآن؟ لن نرى إخوتنا يُقتّلون في الصين وبورما والهند وكشمير وفلسطين .. حرّرنا أراضينا المغصوبة واستعدنا ثرواتنا المنهوبة .. نصرنا المظلومين الذي يلتجئون إلينا من قهر الجاهلية المعاصرة وإن كانوا غير مسلمين .. لن يُصلح الله حالنا حتى نُصلِح أنفسنا، أن نعود إلى ربنا، أن ننفض غبار الجاهلية عنا.

كلنا يرى السفه والإسراف الذي يحدث في دولة قطر هذه الأيام، أمر لا يرضاه الله ولا رسوله ؛ 225 مليار دولار تُصرف في استضافة بطولة كرة قدم! .. هذا الإنجاز الكرتوني الذي أعمى أعين الخواص قبل العوام، وختم الله على قلوبهم فما عادوا يفقهون .. ويعتذر أحدهم لقطر بأن معظم التكاليف كانت في تطوير البنية التحتية، وبناء مدن جديدة، وليس في الملاعب فقط ..

وكأن القطريين الذين لا يتجاوز عددهم 3 مليون نسمة بحاجة إلى مدن جديدة ليبنوها..! إذا كانت الملاعب التي كلف بناءها وتجهيزها 8 مليار دولار سيتم تفكيك مدرجاتها الضخمة والتخلص منها لأنهم ليسوا بحاجة لهذه الأعداد الهائلة من المقاعد، فما الحاجة لمدن بأكملها جديدة؟ .. يستشهد آخر بأن العباسيين بنوا مدينة بغداد من العدم ولم ينكر عليهم أحد..! ولا أدري كيف يُستشهد ببغداد .. العباسيون لم يكن بجوارهم آلاف اللاجئين السوريين يتضورون جوعاً في مخيماتهم 11 سنة متصلة بلا حل .. كل عام يأتي الشتاء ويأتي معه موسم "التضرّع" إلى الناس وتهييضهم بكل السبل ليتصدقوا لإخوانهم السوريين لجلب بطانيات يتدفؤون بها ! .. اليمن في عصر العباسيين لم تكن تحتاج إلى 100 مليار دولار لإعادة إعمارها بعد الحرب ! .. أفغانستان في عصر العباسيين لم تكن تحتاج لمن يقف معها ويدعم اقتصادها المنهار بعد حرب دامت 20 عاماً ! .. المسلمون البورميون في عصر العباسيين لم يكونوا بحاجة لمن يدعمهم بأساسيات الحياة ليعيشوا وبالسلاح ليدافعوا عن أنفسهم ! .. لم تكن قوارب المهاجرين في عصر العباسيين تُبحِر متواصلة من شمال إفريقيا إلى شواطئ أوروبا، ينجو واحد منهم ويغرق عشرة!.

ثم يقول قائل أنها دولتهم، والأموال أموالهم، وهم أحرار فيها إذا أخرجوا زكاتهم ! .. ولا أعجب والله من هذا القول ! .. وهل تجب الزكاة على المال العام ؟!!! .. إن المال العام هو بيت مال المسلمين ويُصرف في مصالح المسلمين، فهو ليس مُلكاً لشخصٍ معين يتصرف به كيف يشاء .. وأما قوله أن الدولة دولتهم فهذا مما لا أعترف به، ولا أراه شيئاً، هذه الحدود خطها الغرب المستعمر لنا، وتحوّل الولاء والبراء بسببهم من معيار الدين إلى معيار "القُطر الذي نعيش بين حدوده"، وهذه والله الجاهلية بعينها، جاهلية قلبت معاييرنا مما شرعه الله لنا إلى ما شرعه الغرب ورأسماليته لنا .. تشرّبنا معايير الغرب حتى صرنا لا نتصور الدنيا بدونها، ولا يمكننا أن نتخيل حياتنا إذا لم تكن موافقة لمعايير الغرب وقيمه، فقد انتقلنا من مركزية الإله والدين في حياتنا إلى مركزية الإنسان وحقوقه وحريته، كانت حياتنا خاضعة وتابعة لمركزية ثم تحولت إلى أخرى، فمتى يا ترى ننزع معايير الغرب من قلوبنا ثم نملؤها بمعاييرنا نحن لتستقيم بوصلتنا؟.

 

قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه: "ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم به" .. وفي حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ليس المؤمن الذي يشبع وجاره جائع إلى جنبه"

هذا إذا كان جاراً جائعاً فقط .. فكيف بالجار المسلم العربي الجائع الخائف الضعيف الشريد في الشتاء القارص؟! وأنت عالم به تمام العلم؟! قادر على مساعدته بما أعطاك الله من النعم أتم المقدرة؟! .. 

لن أعدد أحاديث وآيات أخوة المسلمين وترابطهم، فالصغير يعرفها قبل الكبير، لكن لا أدري؛ هل على قلوبٍ أقفالها؟.

 

 

مسكينة أيتها العجوز الصينية، ومسكينة يا أمتي الإسلامية!.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

26 سبتمبر – يوم من أيام الله

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال

القاتل الوسيم .. ورسالة للآباء !