نهاية الإنسان
نهاية الإنسان
من العادات التي التصقت بي مؤخراً إكثار الحديث مع أصدقائي بالهاتف، لا
أسير مسيراً ولا أنجز عملاً بين يدي إلا و"السماعة" في أذني، أبادلهم النوادر
ويبادلونني، أحكي لهم القصص والخواطر اليومية ويحكون لي .. فكل يوم أو يومين أكون مع
أحدهم .. ربما نار الشوق وألم الفراق هما الدافعان لهذه العادة – في الحقيقة؛ بدون "ربما"، بل هما
الدافعان الرئيسيان! – فبيني وبينهم آلاف الأميال، و(بلاداً إذا كلّفتها العيس كلّتِ)
..
فكنت هذه المرة مع صديقي أحمد الذي باغتني بسؤال مفاجئ شغل تفكيري كثيراً:
"أتانا بعد الصلاة مسكين يسأل الناس، ولم يلتفت له ولحاله إلا الفقراء
والمساكين أمثاله؛ كعامل النظافة والعمال الحرفيين ذوي الأشغال الشاقة والدخل
القليل، أما المقتدرون والمستورون من أمثالنا فلم نعد نشعر تجاههم بأي أسى أو
اهتمام، لماذا؟ مالذي أصاب قلوبنا؟"
شُدهت من سؤاله وتوقفت لوهلة، فلم أجد إجابة أو رأي لأقوله، فسألته أن يمهلني
لأمعن في الأمر، ولم تكن هذه الصدمة لصعوبة السؤال، بل لتشعبه وعمقه ..
لقد نزعت الحياة التي نعيشها كل القيم الاجتماعية والتكافلية التي كان آباؤنا
يتنعمون بظلالها، ويجنون من ثمارها، أصبحت علاقاتنا تعاقدية لا تراحمية، أصبحنا نلهث وراء المنفعة، فقد أصبحت "المنفعة" آلهة العصر الحديث بلا جدال، وكلما ازداد غنى الإنسان الحديث
ازداد اعتداده بنفسه واستغناؤه عن كل أحد، فلا يُحسن ولا ينتظر الإحسان من أحد، فيتطبع
هذا البائس ويصطبغ بالفردانية فتظهر حينئذ العالمانية بأبشع صورها، ومع زيادة اعتداد
الإنسان الحديث بنفسه ينتقل إلى طور الطغيان، وتكبُر الأنا بداخله، وتعظم ثقته، وتستوحش
استحقاقيته، فيحسب نفسه سيخرق الأرض أو يبلغ الجبال طولاً ..
فإذا كان مجرد الغنى يؤدي بالمرء في نهاية المطاف إلى الطغيان (كَلَّا
إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى* أَن رآهُ اسْتَغْنَى)؛ فما ظنك بما يفعله الغنى بصاحبه
الغارق في المجتمع العالماني ومنظومته الأخلاقية؟!
إن فقراء العالم لازالوا على الفطرة السوية، لم تطحن منظومة الأخلاق العالمانية
قيمهم كما طحنت أجسادهم، فتراهم أرهف حساً وألين قلباً من غيرهم، وكلما ازدادت
العالمانية شراسة في بلد ما ازداد أهلها بلادة فكرية وقسوة قلبية، وازداد أغنياؤهم
طغياناً وفجوراً ..
لقد سميت هذا المقال بـ(نهاية الإنسان) وهو اسم لفصل من كتاب (العالمانية
طاعون العصر) للدكتور سامي عامري، تكلم فيه عن الموضوع في وصف بديع ولغة عالية، أختم
به كلامي وأكتفي به كإجابة لسؤال صديقي أحمد:
"مع انغماس الإنسان في "الطبيعة "
لإخضاعها لرغباته، وانحسار أُفُقه ضمن نهايته القريبة، وتقلصِ هَمّهِ نهائيًّا إلى
ما قبل حافَّة القَبْر، تَلَمْلمت ذاته، وانكمشَتْ نوازع نفسه البعيدة، وصار
التَّجريدُ والتَّهويم - وَهُمَا وَقودُ انطلاقته الكبرى - مجرَّدَ خيالي صِرْف لا
يُرضي نَهْمَته الماديَّة الشَّرِسة. وقد اَلَ به ذلك إلى أن يتنكَّرَ إلى نفسه
السَّابحة في مِسْلاخِهِ، وأن يَكْبِتَ جوامِحَهُ وَيأَدَ أَجِنَّةَ الأطيافِ المجنّحةِ
الأسيرة بين أَضْلُعه، فقمَعَ ما يُميّزه عن بقيّة ما يهيم على الأرض من دوابّ،
وتخلَّصَ من صميم ذاتِيَّته، ليتجرّد من إنسانيّته وهو ما يعبّر عنه علماء
الاجتماع بـ"dehumanization" ليصبح الإنسان تُرْسًا
بارداً في آلة الكون الضَّخْمة.
هذا الخروج من حال التأنُّس كَسَرَ في الإنسان
تركيبيَّته، وحوَّلَهُ في زَمَنَ سيطرةِ الدَّولة وقطاع اللَّذَّة المصَنَعة إلى
شيء بسيط في تكوينه، أَمْلَسَ بلا نُتُوءات، باهت بلا
ألوان، مُكرَّرٍ بلا تَميز، وهو ما اصطلح على التعبير عنه "بالإنسان ذي البعد الواحد" -one
man dimensional- حيث يفقد الإنسان أبعاده
البِكْر ليتحوّل إلى لَوْحة بلا ملامحَ، تضخ ألواحها مصانعُ قطاع اللَّذَّة ضمن
النَّسق الاقتصادي العالمانيّ المفرَّغِ من القيمة. إنّه "الإنسان"
المتّجه بجوامع نفسه إلى ما يُراد منه من إحساس وتفاعل ورغبة واستهلاك بِنَسَق رتيب
يفتقد الرَّغبة المتقلّبة أو المتردّدة أو المتراجعة. وأخطرُ ما فيه أنّه
مُسْتَنْسَخٌ على هذا النَّمط السَّلِسِ الهادئ دون أن يَشعر أنّه كيانٌ مُفرَّغٌ
من الثَّورة أو الفورة؛ إذ أن معامل تصنيع اللذَّة تُوحي إليه أنّه فردٌ في
اختياره لما يريد، وأنّه يُعبّر عن تطلّعاته الذاتيّة بأدواتِ اللذة التي
أَغْرَقَتْهُ حتى شرقت بها نفسُهُ وأَخْفَتْ عنه نوازِعَهُ الأصيلة. إنّه إنسانٌ
بارِدٌ يفتقد الحرارة الذاتية التي تسوقُهُ إلى الخروج عن النَّسق الرسميّ
للتَّنْميط.
هذا الإنسان أُحادِيّ البُعْد يعكس مقاساتِ
اللَّذَّة التي ترسم له وتُصَنّعُ لأجله، ليكون في المحصِّلة شيئًا مُكرَّرًا مثل
أدوات اللَّذَّة التي تُصنَّعُ لأجْلِهِ، مُكرَّرة، ذات شكل وروائحَ وألوان
مُكرَّرة. كُل ذلك وهذا الإنسان الغارق في فِتْنة التَّعْلِيب يَشْعُرُ أنّه
مميَّزٌ عن الجميع لأنّه يسلك على خُطى الموضة المتجدِّدة والمتميِّزةِ والتي
صُمّمتْ خِصّيصاً لأجله. هذا هو الإنسان عندما تَخْفِتُ أصوات الضَّجيح في نفسه
القَلِقة، وتَهْمُدُ فيه تعبيراته القلقة في التجاوز إلى ما وراء الاستهلاك
الاَليّ أو البهيميّ. هذا الإنسان الفاقد لميزة التميّز، يُصنَّعُ واقِعُه، وغَده،
ورغباتُه ومكارِهُه، حتّى نُشُوزُه ليس إلَّا وَهْماً تُصَنّعُهُ مؤسساتُ
اللَّذَّة. يعيش هذا الإنسان خديعةً كُبرى هي "الحريّة" حيث يفعل ما
يريد وينغمس في كُلّ جديد، وَيرْكَبُ كُلَّ طارئ، لكنّه في حقيقته يسير على
سِكَّةِ الجبريّة، ويتحرَّكُ في طُرُق قَسْريَّة لا يملك واقعاً تجاوُزَهَا؛ لأنّه
إنسانٌ مُدَجَّنٌ، فاقِد لحقِّ الاختيار لِفِقْدانه حاسَّةَ النقْدِ ولتَعَلقِهِ
الحنينيّ بالوسائل بعد أنْ تلاشَتْ من أُفُقِهِ الغاياتُ، فهو يلبَسُ ما يُحاك له،
ويشرب ما يُعْصَرُ له، ويأكل ما يُطْهى له، ويركب ما يُصْنَعُ له؛ لأنّه يجب أن
يكون هكذا، دون أن يُسائِلَ نفسه لماذا يجب أن يكون. هذا التَّسطيح في شخصيّة
الإنسان المعَلْمَنِ هو جُزءٌ من تسطيح العالم كُلّهِ في زمن العَلْمَنَةِ
المعَوْلَمَةِ، وهو ما عَبَّرَ عنه توماس فريدمان في كتاب له منذ بضعِ سنوات
بعنوان "العالم مسطَّح" والذي نافَحَ فيه عن ضرورة تحفيز سرعة التَّواصل
على حساب الذاتيَّة الفرديَّة أو الجماعيَّة. إنّه عالم مُنْبَسِطٌ، بلا عوائقَ،
كما أنّه منبسط بلا معالم أو معانٍ. ورغم سهولةِ التَّواصل اليوم في زمن الثَّورة
التكنولوجيَّة، فإنّ هناك القليل الذي من الممكن أن يقولَهُ الناس لبعضهم، فقد
تسطَّحَتْ مشاعِرُهم وأفكارُهم في تماثُلٍ مزعِج.
في زمن التَّنميط ، ينغلِقُ الأَسْرُ على الإنسان في
ما سمَّاهُ ماكس فيبر بالقفص الحديديّ (iron cage) حيث
يُهيمِنُ مبدأُ الإنتاج والوَفْرة على ذاتيّة الإنسان وفرديتّه. هذه الصورة الذهنيَّة تعبيرٌ من فيبر عن أَسْرِ الإنسان
ضمن النَّسق السريع للإنتاج حيث يكتشف أنه غيرُ قادرٍ على أن يُغادِرَهُ ويستحيل كَسْرُه، فقد خَلَعَ رداءَهُ القديم ليلبَسَ رداء يوافق نمط الإنتاج
الجديد، لكنَّه اكتشف أنّه أَسيرٌ لهذا الرّداء الصّلب. إنّ خضوع الإنسان إلى أنماط التسليع وتطوّرها حوَّلَهُ أيضاً إلى مرحلة من مراحل التَّسليع، كعنصر في النّمط الإنتاجِيّ والتَّسويقيّ، وأصبح
شَكْلُهُ وما يُكِنُه في صَدْره ممّا تُصنّعه مؤسَّساتُ اللَّذَّة، وأضحى بذلك
جزءاً من إنتاج السوق، حتى راج في عالم الإنتاج والتجارة بَيْعُ رغبات المستهلك
المخَزَّنة في بطاقاتِ التَّسَؤُق
باعتبارها مادة موجّهة للقائمين على الإنتاج، فَغَدَا الإنسان المستَهْلِكَ والمستَهْلَكَ وواسطة الاستهلاك. إنّ حال اللهاثِ وراء
الإمتاع الاَني وحِدّة السُعار الاستهلاكي حَوَّلا العالَمَ إلى سوقٍ صاخِب خاضِع لمنطق الأسواق التجاريَّة حيث لا صوت فوق صوت
الفائدة التجاريّة ، والمجال حِكْرٌ على لغة التَّثمين والبيع. لقد غدا الإنسان
الذي كان يَصْنَعُ الأسواق في جانب من جوانب محيطه، شيئاً خاضعاً للتَّسويق ،
وجُزْءأ من منظومة الرّبح والخسارة الماديَّيْنِ.
إنّ انغماس الإنسان في "الطبيعة" قد
حوَّلَهُ إلى قِطْعة منها، فهو يخضع القوانين الماديّة نفسها التي يحكم بها على
الأشياء. هو قطعة من أشياءِ العالم، من جوهرٍ ماديّ، وبوَّابته إلى العالم
ماديَّةٌ صِرْفةٌ، وقانون المادَّة هو الحاكم على الجميع، ثم هو غَرْسٌ في هذا العالم
، ينتقِلُ من عالم البَذْرِ إلى عالم الحُطام ضمن نَسَقِ النُشُوء والفَنَاء
بسلاسة ودون ضجيج؛ لأنّ وجوده الوسيط مُفرَّغٌ من قِيَمِ البقاء والمكابَدَةِ
الحية النَّاضِحةِ بدفق البحث عن أجوبة كُليَّة عن الأسئلة الكبرى. لقد فقد
الفِكْرُ في قالَبِهِ المجرَّدِ سلطانَهُ القديمَ على التّأثير على الإنسان نتيجةَ
الصِّياغات المجرَّدة المؤثّرة بوعودها وحماسيَّتِها، وأصبح عالم الوسائلِ
والأدواتِ مُهيمناً على وَعْيِ الإنسان ولاوعيه، وغدا العالم المادِّيُ مدخل كُلّ
فِكْرَة جديدة تبحث لنفسها عن سُلْطان."
تعليقات
إرسال تعليق