بياضٌ في بياض !
بياضٌ في بياض !
بياض في بياض .. لا اخضرار الربيع ولا احمرار الخريف ولا اصفرار الصيف؛ تلك حال البلدان البعيدة ممن ابتلاهم الله بالقرّ كما ابتلى العرب بالحر ..
يطلّ الاكتئاب على الناس جنباً إلى جنب مع ثلج الشتاء، فيبسط عليهم ذراعيه فيحتضنهم جميعاً، وتخيم سحابة سوداء على رؤوسهم، فكأنما أغشيت وجوههم قطعاً من الليل مظلماً، وتراهم يمشون متكفئين بأجسادهم المنفوخة بالصوف وأحذيتهم الثقيلة على الأرض والنفس، وليت شعري لو رأى المعرّي أحدهم أسيصيح به (خفف الوطء!) أم سيغير رأيه عن أديم الأرض الأبيض؟
الرؤوس منكّسة، الأجساد تترنح كالبطاريق، يقلع أحدهم قدمه من الأرض قلعاً،
لا ابتسامة ولا تحية ولا نظر إلا شزراً، كأن الجميع يلوم الجميع!
في الحقيقة .. دائماً ما تذكرني السهول البيضاء ذات السيقان السوداء الفارعة بمنظر مجاهدي الشيشان قديماً، وكيف لم يُثنِهم هذا البرد (الذي تكاد أناملي منه تنطق شاكيةً باكيةً) عن أن يصدوا العدوان الروسي الصليبي بسلاح خفيف ومركوبٍ هزيل، فيكسروا أسطورة روسيا "المرعبة شتاءً"..!
لقد أصبح الشتاء عند الروس سلاحاً فتاكاً تهدد به كل من يتجرأ عليها، وسيفاً
تشهره وتلوّح به أمام من يفكر بالمسير إليها .. فهذا الزعيم النازي الشهير أدولف
هتلر قد اكتسح روسيا وسحق جيوشها الواحد تلو الآخر، ولم يقف في وجهه أحد، وكأن
الطريق صار معبداً نحو الكرملين .. لكن الروس استعملوا سلاحهم المرعب، الذي إن استجاروا
به أجارهم، وإن استغاثوا به أغاثهم ..
إنه الشتاء..!
حلّ الشتاء على جيش هتلر بعد أن أضاعوا الكثير من الوقت بسبب مناوشات الروس المستمرة، فوجدوا أنفسهم بين فكّي هذا الليث الأبيض ويديه، وبلغ بهم التعب منتهاه فاصطادهم الروس حينئذٍ في معركة ستالينغراد الشهيرة عام 1943م، وكان الجيش الألماني وقتئذ أكثر من 600 ألف مقاتل، وكلهم ما بين قتيلٍ وأسيرٍ، ولم يفلح منهم بالعودة إلى ألمانيا إلا 12 ألف رجل فقط من الأسرى، وذلك بعد سنوات؛ فراراً من سجن الجولاج المرعب.
وقبل الجيش الألماني كان الجيش الثالث العثماني في الحرب العالمية
الأولى بقيادة أنور باشا وزير الحربية في حكومة الاتحاد والترقي شخصياً، فبعد أن
أعلنت روسيا القيصرية الحرب على الدولة العثمانية غزا أنور باشا بجيشه البالغ 120
ألف مقاتل الأراضي الروسية وهو يحلم بإعادة الأمجاد العثمانية القديمة؛ يوم أن كانت
جيوشهم تكتسح الأرض ومن عليها وتضمها تحت سلطانها، وما هو إلا أن جاء صديق روسيا
الصدوق حتى أُنهِك العثمانيون تماماً، فحصدهم الروس حصداً في معركة ساريقاميش عام
1915م، وقتل من العثمانيين أكثر من 40 ألف مقاتل، وأُسِر منهم الآلاف.
وقبل هتلر وأنور باشا كان الإمبراطور الفرنسي الشهير نابليون بونابرت الذي أقبل زمانه، واتسع سلطانه، وضم في مدة وجيزة ألمانيا وإسبانيا ومصر وبلجيكا ومعظم الدول الأروبية إلى التاج الفرنسي، فلم يكتفِ بذلك؛ بل أقدم على الفعلة التي أودت بهيبته وملكه، فغزا روسيا بجيش جرارٍ عرمرمٍ قوامه 700 ألف مقاتل ! .. فيأتي الشتاء معيناً للروس وناصراً، فينهكهم ويفعل بهم الأفاعيل، حتى إذا جاء موسم الجني والحصاد؛ أتت الأيادي الروسية لتقطف الرؤوس الفرنسية.
وغيرها الكثير والكثير من القصص التي تصف لك وحشية هذا العدو الغريب،
وما هذا إلا غيض من فيضه، وساقية من بحره ..
كان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أقبل الشتاء يرسل
إلى أهله وأقربائه:
"أتاكم العدو؛ فأعدو له العدة!"
والعرب قديماً تقول: "الحر يؤذي، والبرد يقتل!"
حفظ الله المسلمين في كل مكان من هذا العدو المرعب، ومن استطاع أن يتبرع لإخواننا السوريين في المخيمات بشيء يعينهم على الشتاء فليفعل وإن صغر، ولا يحقرن من المعروف شيئاً ..
مقال رائع جداً 👌🏼👍 وراق لي
ردحذف