علّمتني ٢٠٢٢ !
علّمتني ٢٠٢٢
تختلف أحوال البشر في تعاملهم
مع خبر انقضاء عامٍ وبزوغ شمس أول نهار من العامٍ الجديد، فبين مدركٍ له واعٍ بذهاب بعضه
واقتراب أجله، وبين غافلٍ لاهٍ لا يدري عن شجرة عمره التي تتساقط أوراقها من حوله،
وأغلب الناس بين هذا وذاك. وإن من أسس ديننا الحنيف السعي نحو تزكية النفس وتنقيتها من
كل العلائق والشوائب، فيستمر هذا السعي حثيثاً حتى يضع المرء قدمه في الجنة، فالشيطان
ماكثٌ على جنبات طريقه، خلف آكام شهواته وبين أحراش ابتلاءاته، ينظر إليه نظر
الحانق المتربّص، وماهي إلا طرفة يطلقها المسكين أو خطرة يحيكها إلا ويستغلها هذا الكامن أيما استغلال
بخبرته الطويلة وحقده الدفين، فيجعل الطرفة تعلقاً، والخطرة همّاً، فيغفل القلب ويُشغل
العقل، ثم يمتطيه شيطانه كما يمتطي دابته البلهاء، ممسكاً بيده العصا والجزرة، وما
العصا إلا ألم النفس ووحشة القلب وانقباضه، وما الجزرة إلا أمانيه وشهواته وملهياته،
فلا يزداد المرء بإقباله عليها وانغماسه بها إلا طمعاً، ولا يزال يطلب منها المزيد والمزيد ولا يشبع، فلا هو بالذي هرب من آلام نفسه
ولا هو بالذي شبع من اللذائذ والرغائب التي ظنها علاجاً له وفراراً، فيحيد المسكين عن طريقه ويفني
عمره متسلقاً تلك الآكام المرتفعة، آكام الأماني والأحلام، فإما أن يموت بعد ذلك غريقاً
بعجزه وأمانيه في سفحٍ من السفوح أو وادٍ من الوديان، وإما أن تأتيه رحمة الله فتُذهب
عن نفسه سكرتها وعن عينه عشاها فيلهمه الله محاسبة نفسه والعودة بها إلى الجادة، ومجاهدتها
حتى يعبر هذه الدنيا بسلام نحو منازلنا الأولى وفيها المخيّم.
تطهير النفس من أمراضها
وشوائبها إنما يتم أولًا بمعرفة عيوبها، فالمعرفة أولى خطوات الإصلاح، ولا يعرف الإنسان
عيوب نفسه إلا بأمرين: أخٌ مخلص يخبرك بها، أو بمحاسبة النفس محاسبة دقيقة مستمرة،
وما أحسنها من عادة أن ترتبط المحاسبة بوقت معلوم يتعاقب عليك دوريًا ما تعاقب
الليل والنهار، فتحاسب نفسك كل ليلة على ما فعلته في يومك، وكل جمعة على ما جنته
يداك في أسبوعك، وكل شهر على ما أنجزته من شغلك، وكل سنة على ما مضى فيها؛ فتحافظ
على الحسن منها وتنمّيه، وتُحسّن القبيح تارةً، وتارةً تُخفيه، فلا يمر عليك يوم
إلا وهو خير من الذي قبله، ولا عامٌ إلا ونفسك فيه أسمى وأسبق منها فيما مضى.
أغمض عيني وأتخيل ؛ ما أشبه شهر ١ من كل عام بيوم القيامة،
يوم تبلى السرائر وتتطاير الصحف، (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ
فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ)؛ ينشر فئامٌ من الناس إنجازاتهم في
عامهم المنصرم على مواقع التواصل مثلًا أو بين أحبائهم فخورين بها .. فهذا ختم
القرآن وهذا قرأ كذا كذا من الكتب وهذا أنهى الدورات الفلانية وهذا حج وتزوج في
هذا العام وذاك فعل وفعل .. (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ
فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ)
، وأما العاجز فينظر لمن أحسن العمل فيراه مبتهجاً مسروراً فخوراً؛ فيتحسر وتتقطع
كبده ندماً يوم لا ينفع الندم -إن كان قلبه حياً- فيقول يا ليتني بذلت جهدي .. يا
ليتني أحسنت فيما مضى .. أيا ليت الزمان يعود !.
لا أزال أذكر أيام الحجر الصحي بسبب وباء كورونا العالمي،
شهور مكثناها مجبرين في منازلنا، كم منا من يتحسر على ضياع تلك الأيام والتفريط
فيها؟! ..
المؤمن لا يلدغ من جحر واحد مرتين ..!
وكما أنه لا يخلو كتابٌ من علم أو فائدة، قلّ هذا العلم أو
كثر، عظمت هذه الفائدة أو صغرت، ولو كانت تنشيطاً للعقل فحسب ؛ فلا يخلو عامٌ من
دروسٍ وعبر، وحسناتٍ وزلل، والكيّس من أعطى الحسنة حقها من الملاحظة ثم التحسين والمحافظة
عليها، وأعطى الزلة حقها من التحليل والنظر والتوبة لئلا يعاود الكرة ..
جلستُ وحيدًا متأملاً شريط حياتي للعام المنصرم وأراجع فيه قراراتي
وأفعالي، وأُنعِم النظر في مكاني فيه على الأرض ومع الله وبين الناس وفي العمل وفي
العلم، أتفحّص صفحات عمري من كتاب ٢٠٢٢ التي طويت ورقته الأخيرة منذ أيام، أنظر في
بياضها المشرق وسوادها الكئيب، أتفكر في كم الأخطاء التي فعلتها وكمّ الصواب الذي
وُفّقت إليه، لا أستطيع أن أحصر أياً منهما ! .. وكان معظم سقطي مع الناس، ففيهم
أزل، وعندهم أتعثر، فكأني أنظر وأنا معهم إلى نفسٍ غير نفسي التي أعرفها، وطباعٍ
منها لم أعهدها، فنظرت في الوقائع وصورها في عقلي فإذا أنا مصيبٌ مرة ومخطئ مرات،
أجوز مرة وأعثر مرات، فتفكرت فيها ليلي ونهاري، وتمتمت بها سرًا وأبديتها بإجهاري، فلا القلب يسلاها ولا النفس ملّت؛ حتى أخرَج لي نظري أمورًا عزمت على الالتزام بها عامي المقبل لأرى أتستقيم بها جادتي أم
تميل، وإني ذاكرها لك أخي القارىء علّك تستفيد منها وتعمل بها، فهي إن لم تنفعك في
دنياك فلن تضرك، ولن تُحرم عليها الأجر إن أحسنت نيتك، فإني قد سِرت فيها على
قاعدة (السلامة لا يعدلها شيء) ..
أقول مستعينًا بالله؛ إن الجدال يُنمي العداوة ويزرع
الفتنة، وأن الإنسان لا يقتنع بمجرد إفحامه فالعزة تمنعه، وعقله يأمره بالبحث عن
الرد لاحقاً والعودة إليك مرة أخرى، فلن تستفيد من الجدال إلا تلف أعصابك وفناء
أوقاتك .. واعلم أن المرء كلما ازداد وعيه أو علمه؛ قلّ مؤنسه، وأن اهتمامات
الإنسان هي مرآةٌ لدينه وعقله وهمته .. واعلم أن مداراة المتطفل إفسادٌ له،
وتضييقٌ عليك في المستقبل، وأن تجاهل الأحمق خير من الرد عليه بالحجة، فلن تبلغ معه
ما ترجو، واعلم أن صحبته تفسد الطبع وتُذهِب الحِلم وتُمسك الكرم، ولا يحملنك
كلامي هذا على الظلم والتجنّي، فلن تعدم الخير في مسلم، وحسبك بـ"حب الدين"
خلةٌ تجدها في أحمق العوام وأدهمهم، فإن كرهت من أحدهم خُلقًا سيعجبك منه آخر، ولكن
إياك والملازمة؛ فالبَله مُعدٍ والطباع سرّاقة، وإياك أن تعيّر أحدًا بعقله وإن كان
ما تقوله حقاً؛ فما يصبر على هذا أحد .. واعلم أنك لن تنصح أحدًا إلا وسيُفتش عن
عيوبك فلا تبتئس، وأن نفاذ نصيحتك أضعف إلى قلب القريب منك والمخالط لك؛ منها إلى قلب
البعيد، فكثرة الخلطة يكثر معها الزلل، وكثرة الزلل تزهد الناس في كلامك ورأيك .. وعليك بمدح
الصديق في العلن (دون كذبٍ أو إكثار، للإشكال الشرعي)، وعليك بالبِشر والحفاوة عند
لقياه؛ فبها تبذر بذور محبتك في قلبه، واعلم أن الكرم مفتاح القلوب، والبخل أخو
البغض، ففِر من أن تُرمى بالبخل فرارك من الأسد .. هذا والحمدلله رب العالمين.
فَلا تَرضَ المَعايِبَ فَهِيَ عارٌ
عَظيمٌ
يُورِثُ الإِنسانَ مَقتا
وَتَهوي بِالوَجيهِ مِنَ الثُرَيّا
وَتُبدِلُهُ
مَكانَ الفَوقِ تَحتا
كَما الطاعاتُ تنعلُكَ الدَراري
وَتَجعَلُكَ
القَريبَ وَإِن بَعُدتا
وَتَنشُرُ عَنكَ في الدُنيا جَميلاً
فَتلقى
البرَّ فيها حَيثُ كُنتا
وَتَمشي في مَناكِبَها كَريماً
وَتَجني
الحَمدَ مِمّا قَد غَرَستا
بارك الله فيك ورزقك التوفيق والفلاح والسداد في الدارين، وحفظك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، قلم سيَّال وذهن وقَّاد 💠
ردحذفتسلم اناملك ❤️
ردحذفاحسنت قولاً "السلامة لا يعدلها شئ". فلا يكون الجدال بالحجة مع كل أحد.
ردحذفماشاء الله تبارك الرحمن , عبارات جميلة بنفس طيبة , فلا حاجة لنا للخوض في الجدال "فلن تستفيد من الجدال إلا تلف أعصابك وفناء أوقاتك"
ردحذفجزاكم الله خير جميعًا
ردحذف