مــهـد !

 مهد



 

أجلس متكئًا على أحد سواري المسجد بعد صلاة الفجر، أُعِدّ نفسي لاستقبال يومٍ جديد لا أدري كيفه، أردد أذكاري بلساني، أما قلبي فيجيء مرة ويذهب مرارًا، فأنا كثير الشرود؛ الأمر الذي أحاول مقاومته والسيطرة عليه ولكن دون جدوى، فبشرودي أُستفزّ لفكرة عجيبة، أو لفتة لطيفة، فهي سيئة من جهة وحسنة من أخرى، أشعر معها بإنسانيتي، ولولاها لما التفتّ لما يستوقفني.

 ولم يقطع علي شرودي إلا صوت أحدهم خلفي يتلو ورد حفظه من القرآن على شيخه، ومثل هذه المشاهد في بلاد الكفر البعيدة تبعث علىالقلب روحانية خاصة، وفخرًا واعتزازًا كونك فردًا من هذا الدين العظيم الذي يكتسح العالم اكتساحاً ليخرج البشرية من جاهليتها إلى نور التوحيد  ..

 كان الطالب (الذي عرفت فيما بعد أن اسمه مهد وهو من شرق آسيا ومن مواليد كندا) يتلو القرآن تلاوة متتعتعة لعُجمة لسانه، لكنها بالنسبة لحال أمثاله فوق المقبولة، فجلست أستمع إليه غافلًا عما كنت بصدده، وإذا به يصل إلى قوله تعالى من سورة الأنعام (وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَمِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ) ؛ فكان يقرأها (ولا تصبّوا الذين … فيصبّوا الله …)

 فجعل شيخه السوري يحاول تلقينه (تسبّوا .. يسبّوا) ..

 فلا يستقيم لسان مهد معها، فلم يعرف كيف ينطق حرف السين ثم باءً مشددة بعده..!

 وظلّ الشيخ يعيد عليه حتى أخرجها مهد من فمه صحيحة بعد لأيٍ .. ثم سأله الشيخ بالإنجليزية إن كان يعرف معنى هذه الآية، فأجابه مهدبأنه يحفظ ولا يعرف المعنى ! فراح الشيخ يترجمها له لتترسّخ في نفسه.

 كان موقفًا قصيرًا لكنه أثّر فيّ أيما تأثير..!

 جلست أفكر بحالنا مع القرآن ونحن العرب لسانًا وثقافة وأرضًا ونسلاً..!

 يالله كم أشعرني هذا الموقف بالخجل من نفسي ومن ربي..!

 أي عذرٍ بقي لنا في تقصيرنا مع القرآن؟ وأي عذرٍ ونحن نسمع آياته فنفهم معناها كما نفهم خطاب أمّنا ثم نتولى عنه معرضون كأنه لايقصدنا..!

 كيف يكون مهد هذا الشاب المسلم الأعجمي وأمثاله أحرص منّا على الدين وتعلّمه، بل وأغير، وهو بلساننا والنبي من بني جلدتنا ومنأرضنا؟! لأجل هذا التقاعس يحذرنا ربنا تحذيراً لا لبس فيه: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُم)

 لن أطيل الكلام اليوم، فخيره ما قلّ ودلّ ونفذ إلى القلب، وسأختمه بخطابٍ شديد اللهجة من الله عز وجل إلى الصحابة رضوان الله عليهم وهم خير الخلق بعد الأنبياء وهو يتهددهم ويتوعدهم إن هم تقاعسوا عن إقامة هذا الدين .. ثم ما ظنكم إن كان النبي بيننا اليوم وأراد الله أن يوجه إلينا خطابًا كهذا الخطاب العنيف للصحابة، ونحن من نحن في تقصيرنا مع الدين وهجرنا للقرآن؛ كيف ستكون شدته بالنسبة إلى حالنا..؟!!

  

 

فلنتأمل هذه الآيات حق التأمّل إن كان لكلام الله سبحانه أهمية في حياتنا:

  

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)؛ سورة المائدة - ٥٤

 

(ها أَنتُمْ هَؤُلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ)؛ سورة محمد - ٣٨

 

 (إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)؛ سورك التوبة - ٣٩

 


أصلح الله حالنا


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

26 سبتمبر – يوم من أيام الله

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال

القاتل الوسيم .. ورسالة للآباء !