الإنسان ابن بيئته وزمنه

 

الإنسان ابن بيئته وزمنه



إن الناظر في أخبار العصور الماضية وفي طبائع الناس وأخلاقهم يجدها متسقة مع طبيعة عيشهم، فالإنسان ابن زمانه وابن بيئته، ومنهما يكتسب حدته ولغته وطريقة تفكيره وأخلاقه، فالبدوي القديم تجده خشن اللفظ والطباع، قوي القلب، كريمًا مخلصًا لمن أحب، حقوداً غليظاً لمن عادى، ففي بيئته يجب أن تسود صفة الكرم بين الناس وأن يُرفع من قدرها ويُعلى من شأن حاملها، فالكلأ والمرعى في الصحراء قليل، والماء والصيد معدومٌ أو نادر، والناس فيها أقرب إلى الفقر منهم إلى الغنى، فعليك إن كنت ممن قاطنيها أن تُكرم الناس وتُقري ضيفك حتى يكرموك ويقروك إن دار عليك الزمن. 

نعم .. قد لا تكون فكرة المقايظة هذه في نفس الكريم البدوي، بل ربما كان الكرم سجية فيه، لكنها على الأرجح موجودة في أسلافهم وفي اللاشعور لكثيرٍ منهم، وأما الصفات المقترنة بالشدة كالشجاعة وخشونة العيش وغلظة الطبع؛ فعلاقتها الوثيقة بحياة البدوي أظهر من أن تحتاج إلى تعليل.

وبالحديث عن علاقة طباع البدوي ببيئته؛ يُروى أن الشاعر علي بن الجهم رحمه الله كان قد اعتنق مذهب أهل الحديث وترك مذاهب المبتدعة المتكلمين من المعتزلة والجهمية، وذلك في أحلك سنينٍ مرت على أهل السنة، وامتنع عن الدخول على الخلفاء المناصرين للمبتدعة كالمعتصم والواثق بالله، حتى تولى الخليفة العباسي جعفر المتوكل رحمه الله فنصر السنة وقمع البدعة ورفع المحنة عن الإمام أحمد وأصحابه، فحينئذٍ استأذن ابن الجهم -وكان أعرابيًا جلفاً خشن الطبع والمظهر- ليدخل على الخليفة المتوكل ويمدحه بقصيدة منه، وليشكره على نصره لأهل السنة .. فأذِن له ودخل حتى وقف أمامه، وأنشده هذه الأبيات العجيبة:

 

أنت كالكلب في حفاظك للود ** وكالتيس في قِراع الخطوبِ

أنت كالدلو لا عدمناك دلوًا ** من كبار الدلا كثير الذنوبِ

 

فتعجب الوزراء والحضور من جرأة هذا الأعرابي وقلة أدبه مع أمير المؤمنين، فكيف ينشد مثل هذه الأبيات السخيفة ويزعم أنها مدحٌ له..؟!

لكن المتوكل بفطنته كما تقول القصة عرف مع خشونة لفظه حسن مقصده، وأن خياله وأوصافه هي مما رأى وعايش في بيئته البدوية، فابتسم في وجهه وأمر له بدارٍ حسنةٍ على شاطئ دجلة، فيها بستان جميل يسلب اللب بخضرته وتغريد عصافيره، ويتخلله ذلك النسيم اللطيف المحيي للروح والمنعش للبدن، وأمر له بالغذاء اللطيف أن يُتعاهد به، فأقام فيه ابن الجهم ورأى حركة الناس من حوله ولطافة الحضر فأعجبه ذلك، فمكث فيه ستة أشهر يأكل اللين من الطعام ويُشبع عينيه بمنظر البستان، وأذنيه بتغريد العصافير وهديل الحمام، ويملأ صدره بالهواء العليل فيجدد له روحه مع كل شهيق، وكان الأدباء يتعاهدون مجالسته ومحاضرته ليأخذوا عنه فصاحته ويسألوه عما يعجزهم من غريب اللغة ..

ثم استدعاه الخليفة بعد تلك مدة لينشده من قصائده، فحضر وأنشد له قصيدة تقطر رقة وعذوبة يقول في مطلعها متغزلاً:

عُيونُ المَها بَينَ الرُصافَةِ وَالجِسرِ ** جَلَبنَ الهَوى مِن حَيثُ أَدري وَلا أَدري

أَعَدنَ لِيَ الشَوقَ القَديمَ وَلَم أَكُن ** سَلَوتُ وَلكِن زِدنَ جَمراً عَلى جَمرِ

سَلِمنَ وَأَسلَمنَ القُلوبَ كَأَنَّما ** تُشَكُّ بِأَطرافِ المُثَقَّفَةِ السُمرِ

وَقُلنَ لَنا نَحنُ الأَهِلَّةُ إِنَّما ** تُضيءُ لِمَن يَسري بِلَيلٍ وَلا تَقري

فَلا بَذلَ إِلّا ما تَزَوَّدَ ناظِرٌ ** وَلا وَصلَ إِلّا بِالخَيالِ الَّذي يَسري

 

ومما قاله فيها مادحاً الخليفة جعفر المتوكل:

وَما أَنا مِمَّن سارَ بِالشِعرِ ذِكرُهُ ** وَلكِنَّ أَشعاري يُسَيِّرُها ذِكري

وَما الشِعرُ مِمّا أَستَظِلُّ بِظِلِّهِ ** وَلا زادَني قَدراً وَلا حَطَّ مِن قَدري

وَلِلشِّعرِ أَتباعٌ كَثيرٌ وَلَم أَكُن ** لَهُ تابِعاً في حالِ عُسرٍ وَلا يُسرِ

وَما كُلُّ مَن قادَ الجِيادَ يَسوسُها ** وَلا كُلُّ مَن أَجرى يُقالُ لَهُ مُجري

وَلكِنَّ إِحسانَ الخَليفَةِ جَعفَرٍ ** دَعاني إِلى ما قُلتُ فيهِ مِنَ الشِعرِ

فَسارَ مَسيرَ الشَمسِ في كُلِّ بَلدَةٍ ** وَهَبَّ هُبوبَ الريحِ في البَرِّ وَالبَحرِ

وَلَو جَلَّ عَن شُكرِ الصَنيعَةِ مُنعِمٌ ** لَجَلَّ أَميرُ المُؤمِنينَ عَنِ الشُكرِ

فَتىً تَسعَدُ الأَبصارُ في حُرِّ وَجهِهِ ** كَما تَسعَدُ الأَيدي بِنائِلِهِ الغَمرِ

بِهِ سَلِمَ الإِسلامُ مِن كُلِّ مُلحِدٍ ** وَحَلَّ بِأَهلِ الزَيغِ قاصِمَةُ الظَهرِ

إِمامُ هُدىً جَلّى عَنِ الدينِ بَعدَما ** تَعادَت عَلى أَشياعِهِ شِيَعُ الكُفرِ

وَفَرَّقَ شَملَ المالِ جودُ يَمينِهِ ** عَلى أَنَّهُ أَبقى لَهُ أَحسَنَ الذِكرِ

إِذا ما أَجالَ الرَأيَ أَدرَكَ فِكرُهُ ** غَرائِبَ لَم تَخطُر بِبالٍ وَلا فِكرِ

وَلا يَجمَعُ الأَموالَ إِلّا لِبَذلِها ** كَما لا يُساقُ الهَديُ إِلّا إِلى النَحرِ

 

فطرب المتوكل لأبياته أيّما طرب وأسكت ابن الجهم وقال: لقد خشيت عليه أن يذوب رقة ولطافة.

فهذه القصة تبين لك عظم تأثير البيئة على نفس صاحبها وذوقه وأخلاقه ومعايير الصواب والخطأ عنده وطريقة تفكيره!.

وأما المزارع قديماً فتراه صبورًا طويل البال واسع الحلم، وتلك صفات شبه سائدة فيهم، فصارت نفسه وعقليته متوافقة مع بيئته، فهو يحرث الأرض ثم يبذرها ويعتني بنباتاتها اعتناؤه بولده، فيزيل ما يضرها ويهذب ما شعث منها ويصلح ما اعوجّ من سيقانها، وهو مع ذلك مغتبطٌ سعيد .. ينتظر زمنًا طويلًا حتى يأتي موسم الحصاد ليجني ما زرعته يمينه .. وهذه المدة في سبيل قطف ثمرة عمل ما بمعايير زماننا أمرٌ صعب..!

وعلى الطرف النقيض من أهل البادية تجد أن التجارة هي المهنة الرئيسية لأهل الحواضر، وتراهم أقدر الناس على التفاوض والنقاش والأخذ والعطاء، وهم أبعد الناس عن اتخاذ القرارات الحدية والمواقف الحازمة، وأما ذوقهم وطبيعة أخلاقهم فهي تختلف بحسب ما إذا كانت الحاضرة ساحلية أم لا، فأهل الساحل أكثر انفتاحًا وتسامحًا وألين عريكة وأقل انغلاقًا وعنصرية، وذلك لاختلاطهم بمختلف الأعراق والأجناس نظرًا لكونهم على الساحل، والساحل كما هو معلوم بوابة العالم إليك وبوابتك إليهم، وسفن التجارة والزوار ترتاد بكثرة، فهم معتادون على التنوع العرقي والاختلاف الثقافي، وهذا بعكس الحواضر البعيدة عن البحر .. وهو أمرٌ متواتر مشاهدٌ إلى يوم الناس هذا .. وهذا متعلقٌ حتى بمدى شدة التمسك بتعاليم الدين، فأهل الحواضر البحرية أقل تمسكًا بالتعاليم الدينية من أهل الحواضر البعيدة، وأقل تشدداً، وقد رُوي أن أهل مدينة إشبيلية الساحلية ألين من أهل مدينة قرطبة البعيدة، وأهل قرطبة أكثر تشددًا وتمسكًا بالدين من أهل إشبيلية، ويقال أن المغني إذا مات في قرطبة أُخِذت أدواته الموسيقية وبيعت في إشبيلية بسهولة بعكس قرطبة.

وفي العدد الثالث من مجلة الرسالة الصادر عام 1933م ذهب الأستاذ والمؤرخ المصري الكبير محمد عبدالله عنان إلى أبعد من ذلك، حيث رأى أن هناك تأثيراً للجنس والمناخ والتضاريس والدين على طبيعة الناس وأخلاقهم وأذواقهم الأدبية والشعرية .. وكان مما قال:

"فالطبيعة المصرية تكاد أن تكون نائمة: فالجو معتدل في جميع الفصول لا يكاد يختلف، وحقول الوادي الحبيب لا تعرى من الزهور والزروع، والسماء السافرة والصحراوان الوسيعتان لا تكاد مناظرهما تتغير. فإذا لم تكن طبيعة بلادنا نائمة فهي على الأقل مسالمة، لأنها لا تزعجنا بالزلازل العنيفة، ولا تهزنا بالعواصف الرعناء، ولا تخزنا بالبرد القارس والحر اللافح، فطبعت أهلها على الوداعة والفكاهة والبشاشة والكسل والمحافظة على القديم من العادات والأخلاق والآداب فلا تتطور هذه الأمور في مصر إلا بمقدار. ولذلك تجد شعرنا منضد اللفظ جيد السبك بطيء التجدد هادئ الأسلوب لين العطف لا يأخذ الأمور إلا بالملاينة والرفق. بينما تجد الشعر في الشام شديد الحركة كثير التنوع سريع التجدد قلق الأساليب؛ لتعدد المناظر واختلاف الصور وتقلب الطبيعة ونشاط الحياة. وهو في العراق قويٌّ أبيٌّ ثائرٌ ساخطٌ متوثبٌ، منتشر على ألسنة الخاصة والعامة لالتهاب المخيلة، وتوقد الشعور، وصفاء الحس من إفراط الطبيعة في الحر والبرد، وغلبة الحياة البدوية على كثرة السكان."

 

ومما قاله الأستاذ عنان عن تأثير الجنس:

"ومنها (خصائص الجنس) فشعر العرب يختلف عن شعر اليونان في المذهب والخيال والغرض، وشعر ابن الرومي يختلف عن شعر ابن المعتز وقد نشآ في بلد واحد وعصر واحد، لأن الجنس الآري أميل إلى الاستقصاء والتفصيل والتحليل والتعمق، والجنس السامي لذكاء قلبه وحدة خاطره يفهم الشيء في لحظة، ثم يلخصه في لفظة، فهو أميل إلى التعميم والإجمال والبساطة."

 

واليوم .. في القرن الواحد والعشرين .. نعيش في عصر تتسارع أحداثه بطريقة رهيبة، وصدق من أسماه بعصر السرعة، وقد أثر هذا العصر بطبيعته الراكضة علينا من حيث ندري ولا ندري فوق تأثير بيئاتنا، فبعد أن كانت عقلية الناس قديمًا بشكل عام أقرب إلى العقلية الزراعية؛ فتراهم حتى في أعمالهم اليومية وتعاملاتهم الطبيعية يملكون نفسًا طويلًا، فترى العالم فيهم يصبر على تأليف كتاب بآلاف الصفحات، وترى الطالب يصبر على مجلس علم طويل، وترى العابد يصبر على ساعات طويلة من التأمل والتفكر، والرجل يصبر على صديقه والزوج على زوجته والزوجة على زوجها وأبنائها، وكأن الحياة تسير بشكل بطيء رتيبٍ قاتل لشخص يعيش في زماننا .. أما اليوم فقد صارت عقلية الناس تقنية ! ؛ فبضغطة زرٍّ يتيمة يجب أن يحصل تغيير فوري!، وفي كل سنة يتطور "الإنترنت" ليصبح أسرع، و"السيارة" تصبح أسرع، والمكالمات قصيرة، والتواصل بين الناس صار مختصرًا، والعلم يأتيك إلى حيثما تريد، على "هاتفك" وفي أي وقت تشاؤه، ولو رننت الجرس على باب أحدهم وتأخر عليك لثلاث دقائق لبدأت بالتأفف والتذمر!، وأحدنا لو انتظر أهله في سيارته ليقلّهم إلى مكان ما فتأخروا عليه لعشر دقائق فقط لانتفخت أوداجه ولربما استشاط غضبًا على زوجته أو أمه المسكينة..!

ولم يعد لنا صبرٌ على المشاريع العلمية أو العملية الطويلة، ونسينا مصطلح مشروع العمر، وصار من سابع المستحيلات تقبّل فكرة العمل مع تأخير قطف الثمرة ولو كان العمل دعوياً..!

كل هذه الظواهر وغيرها منشؤها بيئتنا وطبيعة حياتنا، وهذه السرعة المهولة جعلتنا نخشى الملل كخشيتنا لألدّ أعدائنا، حتى صار "فوبيا" عند كثيرٍ منا، فيجب أن نقتل الوقت لئلا يقتلنا الملل!، فنقلّب العديد من التطبيقات على الهاتف، ويجب أن نحمل معنا سماعة الأذن في كل مكان .. كل ذلك حتى لا نشعر بالملل ..

هذه كلها مظاهر غير صحية أفقدت الإنسان الكثير من القيم العظيمة كالتفكر والسكينة والطمأنينة! ، نعم .. كلما زاد انغماسنا في هذا المحيط المتسارع حولنا كلما قلّت قدرتنا على التفكير والتمييز .. نحتاج بين الحين والآخر لوقت نغلق فيها أعيننا، ونجلس بمفردنا لنهضم كل تلك المدخلات وسيل الأفكار والمعارف الذي مر علينا في يومنا، نحتاج أن نعود إلى طبيعتنا البشرية ؛ فالإنسان كائن تحليلي بطبعه، يحلل ما يراه ويسمعه ويفكر به، والاستقبال المجرد يفقدنا قدرتنا على التحليل بل ويجعلها تضمر وتخمل مع مرور الزمن، فنصير أقرب إلى البله وإن زادت معارفنا.

 

لا تعجلنَّ لأمرٍ أنت طالبُه ** فقلَّما يدركُ المطلوبَ ذو العَجلِ

فذو التَّأنِّي مصيبٌ في مقاصدِه ** وذو التَّعجلِ لا يخلو عن الزَّللِ

 


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال

القاتل الوسيم .. ورسالة للآباء !

26 سبتمبر – يوم من أيام الله