التنافر المعرفي
التنافر المعرفي
من خصائص الإنسان أنه لا يقبل
المِساس بمعتقداته أو استنقاص أفكاره، فأي طعنٍ بها هو طعن به شخصياً وطعن بجودة
عقله وحكمته، فلأجل ذلك نشأ عندنا "الجدال" وتطورت فنونه وأساليبه، وأُلِّفت
في طُرقه ومغالطاته الكتب والتصانيف، وصارت المنافَحَة عن الأفكار والآراء خصلة
راسخة فينا كالطعام والشراب، لا سبيل للتخلص منها ولا مناص لنا عنها .. العجيب في
الأمر أنك تجد الرجل نفسه يغير فِكرهُ فجأةً ويتحول للطرف المقابل، ويبدأ بنقض
حججه القديمة بنفس القوة والحماس الذي كان عليه من قبل يوم أن كان ينصرها..!، فإن
كان تحوله من الخطأ إلى الصواب ومن الباطل إلى الحق عَظُم الرجل في أعين الناس،
وحمده الجميع على صدقه في ابتغاء الحق، وتواضعه وإذعانه له، وإن كان عكس ذلك صغر
في أعين الناس وصار عظةً وعبرة لهم؛ فما أن يروه حتى يستعيذوا ربهم من الفتن ومن
الكبر وسوء المنقلب.
وهناك صورة أخرى غريبة سنطيل عنها حديثنا لهذا اليوم؛ وهي ذلك الرجل الذي قد يفعل نقيض ما يؤمن به، أو يعتقد بنقيض ما يفعل، ثم تجده يُهلك ذهنه في تعليلات تعسفية يبرر بها موقفه ..
دعني يا صديقي أشرح لك الفكرة بصورة أوضح ..
هناك نظرية في علم النفس اسمها التنافر المعرفي (Cognitive Dissonance)
بناها وشرحها الفيلسوف الأمريكي ليون فستنجر (Leon Festinger)
وتقول النظرية باختصار أن أفكار المرء ومعتقداته إذا اعترضت وخالفت أفعاله شكل ذلك
نوعاً من التوتر والإجهاد النفسي والعقلي يجعله يسعى لأن يخفّض هذا التنافر شيئاً
فشيئاً حتى يصل إلى مرحلة التناسق المعرفي، وهي بمطابقة المعتقدات للأفعال.
خذ هذا المثال؛ أحد أصدقائي المقربين كان يعتقد سابقاً أن الزواج من
الفتاة الصغيرة التي بالكاد وصل عمرها إلى العشرين ولم تدرس الجامعة ولم يتلوث
تفكيرها بمخالطة بعض الخبيثات فيها = هو الخيار الأمثل؛ لأن احتمالية أن تكون أُمّاً
عظيمة مطيعة لزوجها، قارةً في بيتها حييةً خارجه؛ أكبر بكثير من نظيرتها ممن كبرت
سنها، وتلوث فكرها، وفقدت قدراً كبيراً من حيائها بمخالطة السلافع والفويسقات
النسويات .. ثم وبعد مدة من الزمن سمعت بعقد قِرانه فاتصلت به مباركاً وسألته عن
حاله وإذا به يخبرني أن التي ارتبط بها قد شارف عمرها على الثلاثين، وصاحبة شهادة
جامعية !، فسألته عما جرى، فأخبرني أن الفتاة الجامعية أفضل من غيرها؛ لأنها واسعة
الأفق ويستطيع الزوج أن يتفاهم معها بسهولة، وأن الحياة لا تسير إلا بالتفاهم، وهي
تستطيع أن تعلّم الأبناء بشكل جيد، وأن الكبيرة في السن خير من الصغيرة؛ لأن عقلها
قد نضج، وجمالها قد اكتمل ووو إلخ .. فبدأنا بالنقاش رويداً رويداً ودحضت حججه
السخيفة هذه بحججه القديمة التي كان هو نفسه يقولها فيما مضى؛ وهو لا يجيبني بعد
كل "دمغة" أقصفه بها إلا بعبارة (ياخي مو شرط) .. فأنهيت النقاش وأنا
أقول في نفسي: أعانك الله في صراعك الداخلي مع تنافرك المعرفي يا صديقي!.
وجد صديقي المسكين نفسه أمام واقعٍ يخالف ما كان يؤمن به وينافح عنه،
فقد شاء الله وقدر ظروفاً وفتح له أبواباً جعلته يخطب هذه الفتاة، ويعقد قرانه
عليها؛ وهي الكبيرة الجامعية، فهو الآن في صراع نفسي وإجهاد عصبي ووخزٍ في الضمير
يقضّ مضجعه لأنه يقوم بشيء "خاطئ" كما يعتقد، وأمامه حلّين لا ثالث لهما،
فإما أن يتقبل هذا الصراع في نفسه، ويقرّ بخطئه وأن ما يعتقده خير مما يفعله؛ وهذه
مع صعوبتها تستلزم تأمل وساعة صفاء، وصدقاً مع النفس وللحق ليس له حد .. وإما أن
يحاول إيجاد حجج وبراهين لموقفه الجديد يخفف فيها حدة التنافر هذا حتى يصل إلى
مرحلة التناسق المعرفي بعد أن يؤمن تماماً بأفكاره الجديدة، فتقر عينه ويستريح
وجدانه، والأخير هو الحل الذي يفعله أغلب الناس.
كانت المرة الأولى التي أسمع بها عن هذه النظرية في إحدى حلقات سلسلة
(قصة الفتنة الكبرى) للأستاذ محمد إلهامي في رمضان الماضي، وكان عن صحيح أخبار ما
حصل بين الصحابة رضوان الله عليهم وتفنيد شبهات وأكاذيب الشيعة والنواصب والزنادقة
والمستشرقين حول تلك السنوات الحرجة في تاريخ أمة الإسلام .. وكانت تلك الحلقة عن
معركة صفين الكبيرة بين جيش علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان رضوان الله
عليهم أجمعين، وفي أثناء القتال وقد حمي وطيس المعركة ورد الخبر بمقتل عمار بن
ياسر رضي الله عنه، وكان في جيش علي، فأتى عمرو بن العاص فزعاً إلى معاوية
فسأله معاوية: ما بك!؟ ..
فأجابه: قُتِل عمار بن ياسر! ..
قال معاوية: قتل عمار فماذا إذن؟! ..
استغرب معاوية من جزع عمرو على عمار بالذات من بين الجميع، والمعركة
دامية والقتلى بالآلاف في الجيشين ..
فأجابه عمرو: إني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول "ويح عمار
تقتله الفئة الباغية" ..
فقال معاوية: أنحن قتلناه؟ بل قتله علي وأصحابه حين أخرجوه معهم إلى القتال
ووضعوه أمام سيوفنا..!
يقول إلهامي تعليقاً على هذه القصة أنه لا يخفى فساد تأويل معاوية رضي
الله عنه للحديث، وإنما قال ما قاله ليخفف التنافر المعرفي الذي طرأ عليه فجأة بعد
سماعه الحديث من عمرو بن العاص، وقد كان معاوية موقنٌ فيما سبق أنه صاحب الحق
والمظلوم في هذه المحنة، ولم يكن له فسحة من الوقت للتأمل والنظر، فهذا النقاش كان
في وسط ميدان القتال، ونفس الأمر طرأ على عمرو بن العاص الداهية رضي الله عنه بعد
أن قبِل بجواب معاوية وسكن ما في نفسه من ألم التنافر المعرفي وعاد إلى القتال.
وهذا مثال من التاريخ على هذه
النظرية العجيبة.
مما يجب عليك يا صديقي بعد قراءة ما مضى أن تعلم أن الإنسان مجبولٌ
على أن يدافع عن آرائه ومعتقداته، وعلى رأسها عقيدته ودينه؛ فهي أغلى وأعز ما
يملك، وما سُمّيت العقيدة عقيدة إلا لأنها معقودة في القلب لا تنفك عنه .. وعليك
أن تعلم أن آراءك ومعتقداتك ليست على مستوى واحد، فما كان من الدين يكون في أعلى
القائمة، وما كان أصله من الرأي ومنشؤه من الفكر والنظر فهو في أسفلها ويقبل الأخذ
والعطاء، والأمر فيه أوسع، والخلاف فيه أسوغ، فلا داعي للتشدد فيه واصطناع الخصوم
والأعداء، ولتكن كما كان أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه حين رأى رأياً
بان له بعد ذلك خطؤه فعدل عنه إلى غيره وقال معتذراً (إن هو إلا رأيٌ رأيته
فاستصوبته) .. وإن قدر الله في يوم من الأيام وفعلت ما يخالف معتقدك فلا يحملنك
الخجل من الناس أو الجبن على تبرير فعلتك، والنكوص عما أنت مؤمنٌ بصوابيته، خصوصاً
إن كان ما تفعله حراماً، كمن يزني ويتعذر بأن الزواج في هذا الزمان صعب وأن الله
سيقدر ظروفه، أو من شرب الخمر يوماً ثم هو على نفسه الأمر قائلاً أن المذهب
الفلاني أباح النبيذ فالأمر ليس قطعي، أو كمن يأخذ الرشا ويسميها أتعاباً أو هدايا
ليُسكِت بها ضميره ومن يُنكِر عليه، أو كمن يقترض بالربا أو يقيم بين ظهراني
المشركين ويتعذر بأنه مضطر؛ وهو كاذب في ادعائه ..
تذكر أنك رجل فلا تبرر الخطأ وتجد له المعاذير، كن شجاعاً واعترف بخطأ
ما فعلت وكن ثابتاً على الحق وإن خالف هواك، وإن عصيت الله فلا تلتمس لنفسك
التأويلات الباطلة لتسكّن ألم ضميرك، واعلم (أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي
أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ).
غفر الله تقصيرنا، ورزقنا شجاعة الاعتراف بأخطائنا، والوقوف مع الحق وإن خالف أهواءنا .. دمتم في أمان الله
تعليقات
إرسال تعليق