موجز حكاية العثمانيين في اليمن (1): بداية الصراع وتبدُّل النوايا
موجز حكاية العثمانيين في اليمن (1)
بداية الصراع وتبدُّل النوايا
مكثت لأشهر مضت منكبّاً على التاريخ اليمني العثماني الوسيط والحديث؛ أقرأ عنه ما
وصلت إليه يدي، وأصغي لما طرق مسامعي ؛ ناظراً وفاحصاً، متفكّراً وناقداً .. أرى
أعاجيبه فأنبهر، وحسناته فأنطرب، ومخازيه فأستعرّ ..
أتسائل؛
كيف لليمن العريقة أن تظل مهملة ومنسية
التاريخ على مر الأزمان..؟
لماذا بين الاستقرار واليمن كبعد
المشرقين..؟
لطالما كانت اليمن ملاذ الخوارج والهاربين
والمطلوبين السياسيين على مر التاريخ، فهي المخبأ الآمن والوكر الوعر وبحيرة
الدماء ..
تاريخها مليء بقصص المؤامرات
والدسائس والانقلابات والتحولات والمنعطفات التاريخية، يعجب القارئ ويمتعه، ويؤلم اليمني
الذي يعايشه ..
أعلل نفسي وأقول: ربما كان السبب هو طرفية
موقع اليمن الجغرافي بالنسبة لعواصم الخلافة الإسلامية على مدى تاريخ الأمة، فأين المدينة
والكوفة ودمشق والأنبار وبغداد والقاهرة وإسطنبول من صنعاء وزبيد وعدن؟!.
تبتدئ
حكاية العثمانيين مع العرب عموماً يوم أن كان قلب الأمة الإسلامية تحت سيطرة السلطنات
الثلاث الكبار المتصارعة وهي السلطنة العثمانية في الأناضول وأروربا ورأسها سليم القاطع،
والسلطنة المملوكية محضن الخلافة العباسية في مصر وليبيا والشام والحجاز وعليها السلطان
قانصوه الغوري، والدولة الصفوية في إيران والعراق وخراسان وعليها الشاه إسماعيل
الصفوي ..
حدث في
مطلع القرن السادس عشر الميلادي صدام كبير بين الصفويين والعثمانيين، وذلك لأسباب
اقتصادية أولاً في محاولة العثمانيين الوصول للهند للسيطرة على تجارتها وتأمين
طرقها، وسياسية ثانياً وذلك لسريان المذهب الشيعي بين أتراك الأناضول بسبب الدعاة
الصفويين فيها مما يهدد عرش العثمانيين بزعزعة ولاء المواطنين، ودينية ثالثاً بسبب
اضطهاد سنة العراق وإيران تحت حكم الشاه إسماعيل الصفوي، ونبش وحرق قبور أهل السنة
والخلفاء العباسيين وعلماء الأمة في العراق وغيرها، وأيضاً بسبب إشاعات عن تحالف
صفوي برتغالي وشيك ..
حصلت بين
الدولتين الكبيرتين معركة جالديران الشهيرة في أغسطس 1514م والتي انتصر فيها رجال
سليم القاطع انتصاراً باهراً، ونتج عن هذا النصر دخول العراق وأجزاء من إيران
وبلاد الأكراد وأرمينية تحت الحكم العثماني، واهتزت صورة الشاه الإيراني في العالم.
وقبل العبور من هذه النقطة إلى التي
تليها؛ خذوا مني هذه النادرة التي حصلت قبيل معركة جالديران أثناء المراسلة بين السلطانين
سليم وإسماعيل ..
أرسل السلطان سليم للصفويين متهددًا
ويدعوهم للاستسلام، وقال فيما قال:
"إن علماءنا ورجال القانون قد حكموا
عليك بالقصاص يا إسماعيل، بصفتك مرتدًا، وأوجبوا على كل مسلم حقيقي أن يدافع عن
دينه، وأن يحطم الهراطقة في شخصك أنت وأتباعك البلهاء، ولكن قبل أن تبدأ الحرب
معكم فإننا ندعوكم لحظيرة الدين الصحيح قبل أن نشهر سيوفنا، وزيادة على ذلك فإنه
يجب عليك أن تتخلى عن الأقاليم التي اغتصبتها منا اغتصاباً، ونحن حينئذ على
استعداد لتأمين سلامتك"
فما كان من الشاه إسماعيل إلا أن ضحك في وجه الرسول وسخر من الرسالة،
وأرسل هدية مع الرسول ليوصلها للسلطان سليم، وقال: "أعقد أن هذه الرسالة
كُتبت تحت تأثير المخدر".
وكانت الهدية التي أرسلها عبارة عن صندوق مليء بالأفيون المخدر..!!!
ردّ السلطان سليم بهدية عبارة صندوق مليء بالملابس النسائية وأدوات
التجميل، وبرسالة كتب فيها:
"إن كنت رجلاً فلاقني في الميدان، ولن نمل انتظارك"
عموماً انتصر العثمانيون انتصاراً كبيراً، ثم بعدها بسنتين وقعت معركة مرج دابق في الشام بين العثمانيين والمماليك حيث تدهورت العلاقة بين السلطانين بعد أن أبدى الغوري تعاطفه مع الشاه إسماعيل ضد عدوهم المشترك ..
انتصر السلطان
سليم خان القاطع على جيش السلطان المملوكي قانصوه الغوري والخليفة العباسي المتوكل
على الله محمد بن يعقوب العباسي، وقُتِل السلطان الغوري وأُسِر الخليفة العباسي، وللمعلومية؛ كانت القاهرة في ذلك الزمن عاصمة الخلافة العباسية، والخليفة والسلطان المملوكي في
تحالف أبدي ..
وبهذه المعركة دخلت
الشام تحت السيادة العثمانية، ثم بايع المماليك طومان باي سلطاناً عليهم، فبدأ طومان
باي بتجهيز ما بقي من الرجال لصد الغزو العثماني الوشيك لمصر والدفاع عن القاهرة
عاصمة الخلافة والدولة المملوكية، وأكمل العثمانيون مسيرهم إلى مصر وحاول طومان
باي أن يتوصل إلى عقد هدنة أو صلح مع العثمانيين حقناً لدماء المسلمين وحفاظاً على
ملكه، فأبدى السلطان سليم موافقة مبدئية على الصلح، لكن ضباطاً في جيش السلطان
طومان باي رفضوا الصلح وأمسكوا بسفراء العثمانيين في القاهرة وقتلوهم ليجبروا طومان
باي على الحرب .. وصل الخبر المذبحة لسليم القاطع فاستشاط غضباً وأمر بذبح جميع أسرى
المماليك لديه، وتحرك إلى الديار المصرية ووقعت بين الطرفين معركة الريدانية التي
سحق العثمانيون فيها الجيش المصري، وفر من نجا إلى القاهرة.
دخل العثمانيون القاهرة في 1518م وكان السلطان طومان باي هو من يقود المقاومة الشعبية فيها بنفسه، لكن الأمر لم يستمر طويلاً حيث أسره العثمانيون وأعدموه وانتهت بموته السلطنة المملوكية، ودخلت مصر وليبيا والحجاز تحت حكم العثمانيين رسمياً، وأرسل شريف مكة بركات بن محمد ابنه الشريف أبو نمي ومعه مفاتيح الكعبة والهدايا للسلطان العثماني سليم القاطع وأخرج السلطان الخليفة المتوكل على الله محمد من السجن وخلعه من الخلافة، وسلّم الشريف أبو نمي والعلماء الأحناف على السلطان سليم بالخلافة، فهو إذاً أول الخلفاء العثمانيون، بل ويقال أن الخليفة سليم القاطع هو أول من تلقب بـ(خادم الحرمين الشريفين).
الجدير بالذكر أنه وقبل سقوط القاهرة عاصمة المماليك والخلافة
العباسية كانت اليمن تحت حكم أسرة آل طاهر أو ما عرف بالدولة الطاهرية، نسبةً إلى
مؤسسها عامر بن طاهر والتي قامت على أنقاض الدولة الرسولية عام 1451م، وفي عام
1489م تولى عرش الدولة الطاهرية في عدن السلطان الظافر عامر بن عبدالوهاب الطاهري، فقام بالأمر خير
قيام بعد أسلافه، وحارب جيوش الأئمة الزيدية في جبال اليمن كما كان أسلافه من قبل،
فغلبهم وقهرهم وزحف إلى صنعاء واستولى عليها واتخذها عاصمة للدولة الطاهرية.
وفي عهد الظافر عامر ظهرت الأساطيل البرتغالية على سواحل الهند وعمان
واليمن والبحر الأحمر، فعاثوا في الساحل الإسلامي فساداً من احتلال وقصفٍ وتدمير،
فاستنجد السلطان الظافر بالمماليك طالباً المساعدة لصد عدوان البرتغاليين، فحرك
السلطان قانصوه الغوري الأسطول المملوكي بقيادة الأميرال حسين باشا الكردي تجاه
اليمن، وأعطاه حكم مدينة جدة واتخاذها قاعدة لأسطوله، وهذه من حسنات السلطان المعدودة،
فقد حكم 17 سنة مليئة بالفساد كعادة المماليك، لكن لديه من المواقف المشرفة
كجهاده ضد البرتغاليين ونصرته لمسلمي الأندلس المضطهدين بعد سقوطها تجعل
المرء يرجو له الرحمة والمغفرة.
بدأ الزحف المملوكي إلى اليمن (التي لم تدخل في طاعة المماليك بعد) واستطاع
الأميرال حسين باشا الكردي أن يحرّر عدة مدن وجزر وقلاع إسلامية من الاحتلال
البرتغالي على طول ساحل البحر الأحمر الجنوبي كما فعل يوم أن حرر جزر كمران اليمنية
سنة 922 هـ واتخذها قاعدة لجيشه.
انقلب الحال عند السلطان الظافر عامر الطاهري في صنعاء، فاستوحش من
المماليك، وخشي من احتمالية سلبهم ملكه، فنفَر منهم ورفض التعاون معهم ضد البرتغاليين،
فاستغل الزيود الموتورون من الطاهريين الموقف، وراسل إمامهم شرف الدين الزيدي الأميرال
حسين باشا وحرّضه ضد الطاهريين، ووعده الإمام بأن يعاونه عليه، ووصف له الظافر
الطاهري بأنه "عدو الله الجائر" ..
فراسل حسين باشا السلطان الغوري في القاهرة على أحد الروايات يستشيره،
فأتاه رد الغوري بأن ينزل لليمن إن رفض الطاهري الطاعة، فرسى بأسطوله على شواطئ
اليمن ودخلها بجيشه فنشبت بينه وبين الطاهريين معارك عدة انتصر فيها حسين باشا،
فاستولى على زبيد، ومن المؤسف القول أن المماليك وقائدهم حسين باشا مكثوا في زبيد
27 يوماً نهبوا فيها أموال المدينة كاملة وسبوا النساء والصبيان، وبلغت غنائمهم من
زبيد فقط حداً يفوق الوصف .. وتحول الأمر من نصرة أهل اليمن ومسلمي الهند وجهاد البرتغاليين
إلى احتلال اليمن واستعباد أهلها ولا حول ولا قوة إلا بالله.
حاول المماليك بعد ذلك احتلال عدن، لكن السلطان الظافر أرسل جيشاً
بقيادة أخيه عبدالملك استطاع به الدفاع عن المدينة، فتركها المماليك إلى تعز واحتلوها،
ثم المقرانة وانتهوا منها، وأخيراً زحف حسين باشا بجيشه نحو صنعاء عاصمة الطاهريين يساعده في ذلك الزيود، فدارت معركة الصافية على أسوار صنعاء انهزم الطاهريون فيها
هزيمة منكرة، وقتل المماليك السلطان الظافر عامر الطاهري، وسقطت بذلك الدولة
الطاهرية في صنعاء.
فما أن سيطر الجيش المملوكي المنهك على صنعاء حتى وردته الأنباء بعد مدة وجيزة بانتصار العثمانيين واحتلالهم القاهرة .. ثم أرسل شريف مكة بركات إلى الأميرال حسين باشا يطلب منه الحضور إلى مكة لمناقشة أمر حكم مدينة جدة ومينائها، وهي التي كانت تحت سيطرة حسين باشا بأمر السلطان الغوري عند تكليفه بمهمة الإبحار إلى اليمن، وما كانت هذه الدعوة من شريف مكة إلا حيلة لاستدراج حسين باشا، وكان أمر الخليفة العثماني لشريف مكة أن يقتل حسين باشا بأي طريقة فهو من كبار القادة المماليك ..
وبالفعل تولى القائد إسكندر بن محمد الجركسي قيادة القوات المملوكية
في اليمن، ووقع حسين باشا في الفخ وذهب إلى مكة فأمسك به الشريف بركات وأعدمه غرقاً
في مياه البحرالأحمر.
استلم اسكندر الجركسي القيادة في وضع سيء جداً، حيث تجرأ عليهم الزيود
وغيرهم من القبائل اليمنية الموتورة من جرائم المماليك، ولم يكن له دولة أو قيادة
يطلب منها النجدة والمدد، وكل من حوله يعاديه، فاضطر تحت ضربات اليمنيين والزيود
إلى ترك صنعاء متجهاً إلى تعز، مبتعداً ما أمكنه من قواعد الزيود ومقترباً ما
استطاع من البحر، فما وصل إلى تعز إلا بعد جهدٍ وجهيد وتعبٍ شديد من الكمائن
والهجمات اليمنية مستمرة على طول الطريق.
فدخل تعز وتحصّن بها واضطر إلى أن يكتب للخليفة العثماني سليم القاطع،
عارضاً عليه السمع والطاعة والتبعية على أن يقرّه على ولاية اليمن نائباً عنه، فأقرّه
الخليفة والياً على ما تحت يده.
حديث اليمن والعثمانيين يطول، وأنا أبذل لاختصاره كل البذل، ولا مناص
لاختصاري من الخلل والله المستعان، ومن أراد الاستزادة فالمصادر حول تلك الفترة
كثيرة ..
سنكمل في المقال القادم حديثنا حول ما جرى لليمن في بداية دخولها تحت
الحكم العثماني، وسنلقي نظرة على نشوء المذهب الزيدي، وكيفية تغلغله في تلك الأراضي
اليمنية الشاسعة، وعن دور أئمة الزيود في حكم اليمن.
في حفظ الله ورعايته
حفظك الله ورعاك
ردحذفالله يخارج اليمن من اليمنيين
ردحذف