لله درّ النائبات

 

لله درّ النائبات


شكى إلي أحدهم همّاً ألمّ به، وحملاً يثقل كاهله، ونفساً تواقة تقضّ عليه مضجعه؛ فلا هو بالواصل ولا هي بالساكنة، فكيف يفعل هذا المسكين وقد كبّلته صروف دهره، ومنعته التحليق إلى سماوات مجده الذي يطلبه ومنتهى همّته التي يصبو إليه؟ أيكبح نفسه عن طيشها ويستسلم لدهرٍ كان عليه أقوى، أم يقاتله قتال المستعذر الآمل..؟

وقد زادت النار في صدر صديقي اشتعالاً وهو يرى أراذل الناس وهم يتقلبون في عيشٍ هنيء وظل ظليلٍ ومالٍ وفير وأمنيات تتحقق ومشاهي تتأتى لمشتهيها .. 

فكيف لهذا السفيه المشهور أن تأتي له الدنيا خانعة جاثية على ركبتيها وذووا العقل والعلم والصبر والدين يصارعون فيها مصارعة الغريق، ويكابدون فيها مكابدة المغرغر؟! هذا والله مما يذيب القلب حسرة وكمداً..!

هذا كان كلامك يا صديقي فاسمع مني الآن علك تجد فيما أقول سبيلاً ..

إن الناس في معاشهم وحيواتهم على مذاهب شتى، فطامحٌ وعاجز، وساعٍ وقاعد، وراضٍ وساخط، وشاكرٌ وصابر، ومن سره زمن ساءته أزمان؛ وقليلٌ من يشذ عن هذه القاعدة.

وإن الهم أمر لابد كائن فينا بني الإنسان، ودفعه هو الشيء اتفقت عليه كل الأمم منذ خلق السموات والأرض وحتى يرث الله الأرض ومن عليها، والهم لا يعرف غنياً أو فقيرًا، فهو في قصر خليفة الأندلس عبدالرحمن الناصر كما هو في بيت فقيرٍ في أدغال أفريقيا أو صحراء العرب، فلا محيد عنه ولا مناص منه.

ولذة دفع الهم هي منتهى اللذات وغاية الأمنيات، فرأسها طرد المؤمن لهموم الدنيا حين يرى وجه ربه سبحانه ويدخل الجنة، وأدناها لذة طرد مشاغل الدنيا ومتاعبها، فما اللذة في هذه الحياة إلا عملاً تنهيه وإنجازاً تتمه؟ فأجمل الراحة ما سبقها تعب، وأحلى الرخاء ما تلى الشقاء، ولولا الصعاب ما كان للصبر وجود، ولولا الأمل ما كان للحياة معنى.

اعلم يا صديقي أن ما تعانيه في حياتك قد ماثلك فيه الكثير، وزاد عنك فيه كثير وقلّ عنك كثير، فما للحياة صفة تلازمها إلا التعب (لقد خلقنا الإنسان في كبد) ..

طُبِعَت عَلى كدرٍ وَأَنتَ تُريدُها

صَفواً مِنَ الأَقذاءِ وَالأَكدارِ؟!

وَمُكَلِّف الأَيامِ ضِدَّ طِباعِها

مُتَطَّلِب في الماءِ جَذوة نارِ

وَإِذا رَجَوتَ المُستَحيل فَإِنَّما

تَبني الرَجاءَ عَلى شَفيرٍ هارِ

فَالعَيشُ نَومٌ وَالمَنِيَّةُ يَقِظَةٌ

وَالمَرءُ بَينَهُما خَيالِ ساري

وَالنَفسُ إِن رَضِيَت بِذَلِكَ أَو أَبَت

مُنقادة بِأَزمَّة الأَقدارِ


ترى من الناس فئام تغبطهم على حياتهم وهنائهم، فتقلّب نظرك فيما أنت فيه فتزدري نِعم الله عليك، وما يدريك أن هذا الذي تغبطه باطنه كظاهره وما خفي منه كما بدا؟ أصحته جيدة؟ أدينه متين؟ أولده صالح؟ أيُحب وله من يحبه؟ أعقله راشد؟ وغيرها الكثير من الأسئلة التي لا نهاية لها ..

تعجبني مقولة للتابعي الجليل محمد بن سيرين رحمه الله زعم فيها أنه ما حسد أحداً على نعمةٍ أُعطيها أبداً، وعلل ذلك بأنه إن كان هذه المُنَعّم من أهل الجنة فما سأتيه من النعم فيها أضعاف ما لديه الآن، فكيف يحسده على أحقر ما يملك؟ وإن كان من أهل النار كان ما ينتظره فيها لا يوصف، فكيف يحسد شخصاً هكذا تكون نهايته..؟

ثم تعال يا صديقي .. هب أن هذا المُنَعّم قد أوتي الدنيا بكل نعيمها، ولم يأته من المنغصات إلا تخمة الشبع، فأين جمال الحياة في ذلك؟ وأين لذة العاقبة؟ وأين سكرة الانتصار..؟!

أي رتابة وأي ملل يعيش فيه هذا التعيس المسكين؟ أحقاً تريد حياته السخيفة هذه؟

تخيل حين يجتمع هو ومن على شاكلته في مجلسٍ واحد، ما الأمور التي سيتداولونها في مجلسهم، وأي قصصٍ سيحكوها فيما بينهم..؟

أجزم أن تسعة أعشار كلامهم سيدور فيما بين البطن والفرج!

فأين العقل في الرغبة بأن تكون تافهاً مثلهم..؟!  

كتب المنفلوطي في نظراته وصفاً بديعاً لحال هؤلاء التعساء المنعّمين، يقول:

"وأشقى الأشقياء أولئك المترفون الناعمون الذين يوافيهم الدهر بجميع لذائذهم ومشتهياتهم، فلا يزالون يمعنون فيها ويتقلبون في جنباتها حتى يستنفدوها، فيستولي على عقولهم مرض السآمة والضجر، فيتألمون من الراحة أكثر مما يتألم التّعِبُ من التّعَب، ويقاسون من عذاب الوجود أكثر مما يقاسي المحروم من عذاب الحرمان، وقد تدفعهم تلك الحالة إلى الإلمام بمشتهياتٍ غريبة لا تتفق مع الطبيعة البشرية، ولا تدخل تحت حكمها تفريجاً لكربتهم، وتنفيساً عن أنفسهم. وما هؤلاء المساكين الذين نراهم سهارى طوال لياليهم في ملاعب القمار ومجالس الشراب ومواقف الرهان إلا جماعة  الفارّين من سجون السآمة والملل، يعالجون الداء بالداء، ويفرون من الموت إلى الموت."

 

نعم يا صديقي ..

لله در النائبات فإنها

صدأ اللئام وصيقل الأحرارِ!



عش يا صديقي كعيش الأبطال والأخيار
، لا عيش السبهلل والمخنثين، فالأيام الشديدة تصنع الرجال الشداد، وقد كنتَ من قبل ذا همة عالية ونفس طامحة، فلا يغلبنك الشيطان على نفسك فيميل بك إلى العجز والخور، فهل هانت عزائمك ولانت؟ فقد كانت عرائكها شداداً..؟!

واعلم أن عظم المطلوب من عظم النفس، ونوائب الدهر ثمنٌ تدفعه في سبيل المجد ولابد، والوحدة وقلة المعين ضريبة لا مفر لك منها.

وحيدٌ مِنَ الخُلّانِ في كُلِّ بَلدَةٍ

إِذا عَظُمَ المَطلوبُ قَلَّ المُساعِدُ

 

فليت شعري كيف كان شعور المتنبي يوم أنشد قصيدته التي تحكي حاله والتي يجب أن تكون هي حال صديقي وحالنا جميعًا:

 

أُطاعِنُ خَيلاً مِن فَوارِسِها الدَهرُ

وَحيداً وَما قَولي كَذا وَمَعي الصَبرُ

وَأَشجَعُ مِنّي كُلَّ يَومٍ سَلامَتي

وَما ثَبَتَت إِلّا وَفي نَفسِها أَمرُ

تَمَرَّستُ بِالآفاتِ حَتّى تَرَكتُها

تَقولُ أَماتَ المَوتُ أَم ذُعِرَ الذُعرُ!

وَأَقدَمتُ إِقدامَ الأَتِيِّ كَأَنَّ لي

سِوى مُهجَتي أَو كانَ لي عِندَها وِترُ

ذَرِ النَفسَ تَأخُذ وُسعَها قَبلَ بَينِها

فَمُفتَرِقٌ جارانِ دارُهُما العُمرُ

 

عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم:

"المؤمن القوي خيرٌ وأحبُّ إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أنِّي فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل، فإنَّ لو تفتح عمل الشيطان"

 

أعلم أني قصرت في العرض، والكلام في هذا الموضوع يطول ويطول ويطول، لكن حسبك من الأمر كُليمات تجد باباً في القلب مفتوحاً .. في أمان الله




عبدالله بن علي الحماطي


تعليقات

  1. سلِمت يمناك أخي عبدالله , من جميل ماقرأت من كٌليمات مختارة بعناية مع إيجاز وتوضيح لنقاط مهمة.
    أسال الله لنا ولكم التوفيق والنجاح,,,
    أحمد المبارك

    ردحذف
  2. واللهي اشعلت نارًا في داخلي 🫡

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

26 سبتمبر – يوم من أيام الله

102 عام على مذبحة قافلة الحجاج اليمانية

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال