موجز حكاية العثمانيين في اليمن (2): طريق الهند .. والإمام الطاغية المطهر بن يحيى!

 

طريق الهند والإمام الطاغية المطهر بن يحيى!

 

          يعتقد كثير من الناس أن قراءة التاريخ ودراسته هو نوعٌ من الاستجمام المعرفي والترف الفكري، يشغل به المرء نفسه حال فراغه وضجره، فيقرأ فيه بحثاً عن الأنس، وسعياً للتغافل عن وقته لتخف وطأته عليه، وهذا ولا ريب من أفسد ما اعتقده الناس في عصرنا، فبالتاريخ يُفهم الواقع، وبالتاريخ يُتنبّأ بالمستقبل، وبالتاريخ تُحمى أجيالٌ من الضياع الفكري والازدراء النفسي.

          لو لم يكن للعلوم الإنسانية عموماً وللتاريخ خصوصاً هذا القدر من الأهمية لما كانت كتابات فولتير الإنسانية والتاريخية؛ حجر الأساس التي قامت عليه الثورة الفرنسية ومبادئها، ولولا نيتشه وداروين لما كانت جرائم الاستعمار بهذه الوحشية، ولولا أهمية هذه الكتابات أيضاً لما كان للولايات المتحدة الأمريكية مثلاً هذا الكم الهائل من مراكز الأبحاث المنثورة في أرجاء المعمورة .. مراكز أبحاث مختصة بالإنسان فقط .. الإنسان بثقافته وتاريخه وعاداته، وما غرض الأمريكان من ذلك إلا تسهيل سيطرتهم على المجتمعات الأخرى، سواء أكانت هذه السيطرة على شكل حملة عسكرية أو غزوة ثقافية ناعمة، أو محاولة منهم لخلخلة النسيج المجتمعي لشعبٍ من الشعوب بقمع رموز وتصدير آخرين لخدمة المصالح الأمريكية والتوجهات الليبرالية الغربية في المنطقة، كما يفعل مركز راند الأمريكي للدراسات والأبحاث الذي يصدر تقاريره الدورية عن الشرق الأوسط وأهله، ويقدم الاقتراحات المختلفة للتعامل معه إلى وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية CIA والتي بدورها توصل هذه التقارير إلى الرئيس الأمريكي شخصياً، ويؤسفني أن أقول أن مؤسسة راند التجسسية المعادية للشرق الأوسط مقرها في دولة يسبّح بحمدها وحمد إسلامها الكثير! .. ومن كان لديه عقلٌ فلينظر في الأمر.

 

نعود لقصتنا ونقول أن سلطة العثمانيين استقرت في المنطقة العربية بعد هزيمة المماليك وقتل سلاطينهم تباعاً، واضطرار الوالي المملوكي في اليمن اسكندر الجركسي أن يبايع الخليفة العثماني سليم خان القاطع وكان ذلك سنة 922 هـ|1518م.

أراد العثمانيون استخدام اليمن كقاعدة عسكرية بحرية تجابه أساطيل البرتغاليين في البحار والمحيطات الجنوبية بعد اكتشاف قراصنة البرتغال لرأس الرجاء الصالح، وذلك نظراً لموقع اليمن الاستراتيجي القابع في منتصف الطريق بين العاصمة إسطنبول وبين السواحل الهندية المسلمة، ولكن تجري الرياح بما لا تشتهي السفن؛ لم تستقر سلطة العثمانيين في اليمن طيلة 20 عاماً منذ تاريخ دخول البلاد تحت حكمهم، فغزوات جيوش أئمة الزيود مستمرة ضد القوات العثمانية في اليمن، إضافة إلى بقايا حكم الطاهريين الطامحين إلى استعادة ملكهم، وهذا كله بجانب صدامات وصراعات قبلية لا تحصى، وضربات البرتغاليين متتالية على السواحل، وفوق ذلك ظهرت حالة من الفوضى في حكم العثمانيين في مصر جعلتهم يهملوا أمر ولاية اليمن ويكلوا أمرها لواليها ليتصرف فيها بما يراه وبما لديه من موارد دون رقابة أو مدد .. كل ذلك وغيره جعل استقرار حكم اليمن للعثمانيين أمراً بعيد المنال.

أصل المشكلة ابتدأ بموت الخليفة سليم القاطع المفاجئ سنة 1520م، قيل بسبب مرضه من كثرة تعرضه للجيف في ساحات المعارك، وقيل أنه تم تسميمه من قبل خصومه .. فتمت البيعة لابنه الشاب سليمان (القانوني) ذي الخمسة والعشرين ربيعاً؛ الذي ترك له أبوه تركة مثقلة بالعداوات والاضطرابات في كل أرجاء الإمبراطورية العثمانية، وما أن انتشر خبر الوفاة حتى قامت عدة الثورات على الحكم العثماني أكبرها في مصر والشام والأناضول، فاستطاع سليمان القانوني أن يخمد كل الثورات ويوسع إمبراطوريته ويصنع لنفسه اسماً ظل محفوراً في ذاكرة التاريخ يفوق في مجده اسم أبيه؛ الخليفة سليمان القانوني ابن سليم القاطع.

اهتم القانوني بأمر الهند كثيراً، حيث توالت رسائل الاستغاثة إلى إسطنبول من مسلمي الهند بسبب الهجمات البرتغالية المستمرة، فجعل القانوني اليمن عموماً وعدن خصوصاً وأمر إخضاعها تمام للحكم العثماني نصب عينيه، فأرسل حملة عسكرية كبيرة إليها بقيادة والي مصر العثماني سليمان باشا الأرناؤوطي سنة 945هـ|1538م.

وصلت حملة الباشا الأرناؤوطي القوية إلى سواحل عدن فابتدأ سلسلة من المعارك بينه وبين أمير عدن عامر بن داوود الطاهري الذي حاول إرجاع أمجاد أسلافه، لكنه وأنصاره هزموا هزيمة ساحقة وخسر عدن آخر معاقل الطاهريين ودخلها الباشا الأرناؤوطي فاتحاً منتصراً في 946هـ|1539م، وضاعت أحلامه بإستعادة الدولة الطاهرية السنية العريقة التي لا يزال شيء من إنجازاتها الحضارية قائم إلى يوم الناس هذا.

لم يقف الباشا الأرناؤوطي عند انتصاره الكبير باحتلال عدن الذي عجز عنه العثمانيون من قبل، وأراد أن يكمل طريقه إلى الهند لحرب البرتغاليين طاعة لأمر الخليفة القانوني الذي استجاب لرسائل الاستغاثة وأيضاً للسيطرة على تجارة الهند وثرواتها، فنظم الباشا الأرناوؤطي أمور الجيش العثماني في اليمن وعززه بالسلاح والعتاد القوي، وولى على الجيش القائد بهرام.

كان هذا الفتح العثماني هو بداية سلسلة من الانتصارات الكبيرة وبداية لزحف مجيد كان النصر حليفه الدائم، وبالرغم من تغيير القيادة وتولية القائد أوَيس باشا بدلاً من بهرام إلا أن الأمور سارت على ما يرام، حيث زحف الباشا الجديد شمالاً فهزم الزيود هزيمة منكرة رغم استعداداتهم الكبيرة فسقطت في يده مدينة تعز الحصينة سنة 953هـ|1546م.

الجدير بالذكر أن مناطق الجبال شمال صنعاء كانت مستقلة وتخضع لسيطرة الإمام المتوكل على الله يحيى شرف الدين الزيدي، والقبائل له في تلك البقاع مذعنة غاية الإذعان، فأراد الإمام قبيل سقوط تعز أن ينصب ابنه شمس الدين علي ولياً للعهد؛ بالرغم من أن ابنه مُطهر هو الأكبر والأحق بها، لكن أباه استبعده لضعفه في العلم الشرعي ولإعاقته، فقد كان أعرجاً شديد العرج، فحنق مطهر على أبيه وأخيه وعقد العزم على أن ينتزع حقه بالقوة ممن ظلمه، الأمر الذي جعله فيما بعد قاسي القلب حاقداً متعطشاً لسفك الدماء والذبح بوحشية، وهو مع ذلك يعتبر من أدهى الأئمة الزيدية وأشرسهم، ومطهر هذا يعتبر السفاح الثاني في أئمة الزيدية بعد الإمام عبدالله بن حمزة ..

ومن قصص وحشية مطهر المشهورة وهو الذي أصبح إماماً فيما بعد أن جماعة من خولان قد حشدوا له ورفضوا الخضوع وكان مطهر قد أخذ منهم 80 طفلاً كرهائن قبل ذلك، فلما لم يستطع مجابهتهم أمر بقطع أيادي وأرجل الأطفال جميعاً .. مجرد تقطيع بدون قتل كي يتعذبوا ويتعذب أهاليهم بهم ومنهم..! ثم جمع مطهر القبائل الموالية له وهزم قبائل خولان هزيمة ساحقة فاستسلموا له فأخذ من مشايخهم وكبرائهم 300 رجل وفعل بهم كما فعل بالأطفال من قبل! ثم دخل بلادهم ونهبها وهدم مبانيها وأحرق محاصيلها وقطع أشجارها، وقد أراد مطهر بهذا بث الرعب في القبائل المجاورة لئلا يتمردوا عليه ..   

عوداً على إلى حديثنا .. هرب مطهر إلى زبيد هو وأنصاره بعد حنقه على أسرته وقصد لقاء الباشا أوَيس العثماني فيها، فعرض عليه التحالف ضد أبيه وأخيه والهجوم المشترك على تعز شريطة أن تعترف به السلطنة العثمانية إماماً على مناطق الزيود وأن يعترف هو بشرعيتها وبسلطة الخلافة، فتم الاتفاق وكتب مطهر إلى أنصاره في أنحاء اليمن فتدافعوا إليه، وكان هذا الجيش العثماني الإمامي هو الذي أسقط تعز بيد العثمانيين، ثم تابع جيش التحالف مسيره إلى صنعاء وانتصر على قوات الإمام شمس الدين علي ابن المتوكل يحيى، وسقطت مدينة صنعاء التاريخية في نفس السنة 954هـ|1547م، وبذلك أحكمت الدولة العثمانية سيطرتها من صنعاء إلى عدن لأول مرة في تاريخها، وما ذلك إلا لحنكة وقوة القائد العثماني سليمان باشا الأرناؤوطي ثم القائد أوَيس باشا، وأنجز العثمانيون وعدهم للمطهر بن يحيى واعترفوا به إماماً على اليمن وأعطوه لقب "بك" وجعل عاصمته مدينة ثلاء ذات الحصن المنيع في منطقة عمران.

طمح أوَيس باشا إلى توسيع نطاق تحركاته لتشمل معاقل الزيود في أقصى الشمال وصد هجمات البرتغاليين على الساحل؛ فأراد تقوية جيشه عن طريق فتح باب التطوع أمام الشعب اليمني والشوافع منهم على وجه الخصوص للانضمام إلى صفوف الجيش العثماني لجهاد البرتغاليين، فتدافع آلاف الرجال للانضمام بعاطفة وعصبية وإيمان كعادة أهل اليمن فتكوّن للباشا جيش كبير، لكن نية الباشا لم تتم حيث تم اغتياله غدراً في زبيد عام 1547م على يد أحد قادته فتولى القيادة بعده أزدمر باشا الذي استلم جيشاً قوياً أكمل به مسيرة من سبقه.

لم يركن أزدمر باشا للسكون في صنعاء بل التفت للخطر الأكبر في المنطقة وهو غارات أساطيل القراصنة البرتغاليين المتواصلة على مدن الساحل وتوغلهم في البحر الأحمر وتهديدهم لمكة والمدينة، فأراد أن يغلق مضيق باب المندب في وجوههم، فأرسل عدداً من السرايا البحرية تباعاً من اليمن إلى الساحل الأفريقي المقابل، فاحتله ابتداءً من الصومال جنوباً مروراً بالحبشة وصولاً إلى سواكن شمالاً، وعزّز دفاعات مدن الساحل وترك في كل منها حامية عسكرية عثمانية مهمتها ضرب البرتغاليين متى اقتربوا من تلك المناطق، وبذلك أصبحت ضفتي مضيق باب المندب تحت السيطرة العثمانية ومعزّزة بالجنود والسفن والمدافع والذخيرة فعجز القراصنة البرتغاليون عن دخول البحر الأحمر .. وبعد اغتيال أوَيس باشا تمرد عدد من مشايخ القبائل اليمنية على العثمانيين وعلى رأسهم علي بن سليمان الفضلي من كبار مشايخ منطقة أبين، فتحرك بقواته قاصداً احتلال عدن، ووقع الصدام العثماني الفضلي على مشارف عدن انتهى بهزيمة قاسية للعساكر العثمانية واحتل الشيخ علي الفضلي عدن وضمها تحت حكمه. 

وصلت أنباء الهزيمة المباغتة للعثمانيين وسقوط عدن إلى أزدمر باشا في صنعاء فاستشاط غضباً، فعدن بالنسبة للعثمانيين مسألة حياة أو موت لأنها بوابة الهند من جهة وبوابة البحر الأحمر من جهة أخرى، فأرسل جيشاً كبيراً استطاع أن يدحر رجال أبين ويعيد عدن للعثمانيين مرة أخرى وقُتل الشيخ علي بن سليمان الفضلي عام 1548م.

استمرت سيطرة العثمانيين على اليمن ما بين صعود ونزول لفترات طويلة بعد ذلك حتى عُزل الوالي أزدمر باشا ووُلّي محمود باشا بدلاً منه عام 1566م، وهذا الباشا الجديد اشتُهر بظلمه وعسفه، فقتل الكثير من رجاله لمجرد النقاش أو مخالفة الأوامر أو لمجرد الظن، واشتهر بغدره، فكان يكتب للرجل بالأمان فإذا وصل إليه قتله كما فعل بالفقيه السني علي بن عبدالرحمن النظاري الذي قتله فور أن دخل عليه خيمته بعد كتاب الأمان، الأمر الذي أفرح الزيدية فقد كان الشيخ الجليل من أعتى خصومهم رحمه الله. 

خلاصة الأمر؛ طغى هذا الباشا وتجبر على كل اليمنيين وصادر أموال وأراضي الناس دون وجه حق حتى كرهه الجميع سواء عثماني أو يمني وتناسى الجميع خلافاتهم وتوحدوا صفاً واحداً لمجابهة هذا الجبار الطاغية .. ونتيجة لذلك تم عزل محمود باشا عن اليمن وتوليته مصر، ووُلّي على اليمن رضوان باشا  الذي كان قبل والياً على غزة، ورفع رضوان باشا مظالم ومساوئ محمود باشا إلى الحكومة في إسطنبول.

ورغم الثورة التي قادها ودعا إليها الإمام المطهر بن المتوكل يحيى شرف الدين الزيدي ضد العثمانيين مستغلاً ظلمهم للناس لتأليب القبائل عليهم، ثم بدء الاشتباكات بين الطرفين؛ إلا أن العثمانيين استمروا في حربهم ضد البرتغاليين، فأعلنت سلطنات ساحل حضرموت التبعية للخلافة العثمانية، ودُعي للخليفة العثماني على المنابر، وأرسل العثمانيون كتيبة عسكرية إليها، وهو أول وصول عثماني لتلك البلاد؛ على رأسها مدينتي المكلّا والشحر العريقتين سنة 964هـ|1557م وعزز العثمانيون الساحل بالمدافع والسلاح لصد البرتغاليين في بحر العرب.

توصلت الحكومة العثمانية مع الوالي محمود باشا عن الجرائم التي أبلغ عنها رضوان باشا، فاعتذر بأن ولاية اليمن ولاية صعبة ومعقدة وأن حكمها يتطلب الشدة لإعادة هيبة الدولة، ثم اقترح أن تقسم ولاية اليمن إلى ولايتين؛ تهامة اليمن وجبال اليمن وأن يكون رضوان والياً على جبال اليمن وترسل إسطنبول والياً آخر يتولى تهامة .. والعجيب أن الحكومة اقتنعت بكلامه ! ، وما كان هذا الفعل من محمود باشا إلا انتقاماً من رضوان باشا الذي وشى به، فجعله والياً في الجبال الوعرة يجابه القبائل الزيدية الشرسة، وأرسلت الحكومة مراد باشا ليكون والياً على تهامة. 

فكان الإمام مطهر الذي يظهر الولاء للعثمانيين ويبطن العداء؛ يحاول الإيقاع بين الواليين بدهائه، فأقنع مراد باشا بأنه في صفه وأنه حليفه ونصيره، وحذره من رضوان باشا وأنه قد ينقلب عليه في أي لحظة، وبالفعل استطاع مطهر إيغار صدر مراد على رضوان فأظهر له الجفاء وامتنع عن مساعدته أو إمداده في حروبه، فاضطرت الحكومة في اسطنبول وهي ترى عجز والي الجبال عن السيطرة على الأمور إلى تغييره بحسن باشا في 1567م ؛ الأمر الذي زعزع مناطق الجبال أكثر وأضعف هيبة العثمانيين فيها، فاستغل الإمام مطهر الفرصة وراسل شيوخ قبائل الجوف البدوية والقوية يطلبهم النصرة فلبوا نداءه، وراسل أيضاً مشايخ بعدان فلبوا نداءه، وتحالفوا جميعاً وانقلب المطهر على والي تهامة مراد باشا المغفل، وهاجموا القوات العثمانية وهزموها شر هزيمة واحتل المطهر ورجاله صنعاء، وأُطبِق الحصار على مراد باشا مع نفر قليل من رجاله في ذمار، وليس له نصير أو معين، لكنه تمكن من الهروب بأعجوبة ومعه 50 رجلاً فقط، وفي طريقهم اعترضهم رجال القبائل وجردوهم من كل شيء حتى ملابسهم، ثم قطعوا رؤوسهم وأرسلوهم إلى المطهر في صنعاء عام 1567م.



لم يقنع المطهر بما حققه من مكسب هائل في مدة وجيزة، بل أمر حلفاءه بدو الجوف بالهجوم على تعز ثم عدن وما حولهما وطرد العثمانيين من البلاد بشكل كامل، فالعثمانيون في أصعب وأضعف فتراتهم في اليمن، إلى جانب وفاة الخليفة سليمان القانوني الذي أربك كل الولايات كعادة الدولة العثمانية عند وفاة سلطانها، لكن السلطان بدر أبو طويرق الكثيري سلطان حضرموت فور وصول أنباء زحف قبائل الزيود إلى عدن أرسل المؤن والذخائر للعثمانيين المتحصنين بها، حيث خشي الكثيري تقدم الزيود إلى بلاده بعد سقوط عدن بأيديهم.


الخليفة سليمان القانوني في شبابه عند توليه السلطنة

تولى الخليفة سليم خان الثاني ابن سليمان القانوني عرش السلطنة العثمانية، ووصلت الأنباء إلى إسطنبول بمقتل الوالي مراد باشا وإبادة أغلب الجيش العثماني في اليمن واقتراب سقوط حكم العثمانيين في اليمن كلياً؛ فأمر الباب العالي -رئيس الوزراء في أيامنا- القائد "لالا مصطفى باشا" بالمسير إلى اليمن لقمع تمرد المطهر ورجاله لكنه رفض تولي المهمة الشاقة هذه حتى غضب عليه السلطان سليم شخصياً وأجبره على قبول المهمة، فسار إلى مصر لجمع الجيش العثماني بها، لكن العساكر رفضوا الانضمام للحملة لسمعة اليمن المرعبة، فقد كانت السلطنة العثمانية ترسل العسكر إلى اليمن تباعاً ولا يعود منهم إلا القليل! ..

وقع لالا باشا في ورطة وفكر في حل المشكلة سلماً بالدبلوماسية، فراسل من مصر الإمام المطهر في اليمن يعرض عليه الصلح ويطالبه فقط بالاعتذار والتصريح بأنه لم يأمر البدو ورجال القبائل بأي عمل عدواني ضد القوات العثمانية، وبذلك تحافظ الدولة العثمانية على هيبتها ويتم تسوية الأمر.

لكن المطهر رفض مطالب لالا باشا، بل وأرسل رفضه للباب العالي في إسطنبول شخصياً وكأنه يتحداه!

على إثر ذلك كان الحل العسكري أمر لا مفر منه؛ لكن لالا مصطفى باشا تردد في المسير وأرسل بدلاً عنه أحد قواده يدعى عثمان باشا على رأس حملة عسكرية متواضعة علّها تحقق المعجزة!.

وصل عثمان باشا برجاله إلى اليمن وحاصر قلعة تعز عام 1569م، لكنهم عجزوا عن دك أسوار القلعة أو اختراقها أو إصابتها، ومع طول المدة انقطعت عنهم المؤن ولم يرسل لهم لالا مصطفى باشا من مصر أي مدد؛ فهجم عليهم رجال الإمام مطهر وكبدوهم خسائر فادحة ومهينة .. وذاعت أصداء هزائم العثمانيين في اليمن ومعاناتهم؛ في كل أنحاء العالم، وتحفّزت كل الولايات العثمانية وخصوصاً العربية منها على الثورة المسلحة استغلالاً لنكبتهم في اليمن، فأصبح أمر تسوية مشكلة المطهر باليمن والسيطرة على الولاية مسألة حاسمة؛ ليست لليمن فحسب بل لأمن واستقرار الإمبراطورية بأسرها، لأجل ذلك عزل الخليفة سليم خان الثاني لالا مصطفى باشا عن مناصبه لتقاعسه عن السفر إلى اليمن بنفسه وأمر بإعدام عدد من أمراء العسكر المتقاعسين في مصر، ثم جهز الخليفة حملة عسكرية ضخمة وضعت فيها الدولة العثمانية كل ثقلها، وضمت جيشاً جراراً مقداره أكثر من 80 ألف مقاتل وأكواماً من السلاح والعتاد والذخائر، وزاد طموح العثمانيين وقرروا أن هذا الجيش ليس لإخضاع اليمن فحسب، بل لإخضاع اليمن والسيطرة على الهند وهزيمة البرتغاليين!، وأسند الخليفة قيادة الحملة للقائد الألباني سنان باشا، وهي أكبر حملة عثمانية على اليمن في تاريخها.

 

 

أظن أني تحدثت في مقال اليوم طويلاً، ولم يبق مجال لذكر تاريخ المذهب الزيدي وسبب دخوله لليمن كما وعدت من قبل، لكني سأُفرد لها مقالاً مستقلاً لأن المقال القادم بالغ الأهمية؛ سنذكر فيه نهاية الطاغية المطهر ابن المتوكل يحيى، وصراع أبنائه من بعده فيما بينهم على عرش الإمامة.

 

 

في أمان الله

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

26 سبتمبر – يوم من أيام الله

102 عام على مذبحة قافلة الحجاج اليمانية

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال