موجز حكاية العثمانيين في اليمن (3): نهاية الإمام الطاغية المطهر بن يحيى وصراع أبنائه على الإمامة وانتصارات الكيخيا سنان
موجز حكاية العثمانيين في اليمن (3):
نهاية الطاغية المطهر بن يحيى وصراع
أبنائه فيما بينهم وانتصارات الكيخيا سنان
إن أسوأ ما حواه المذهب الزيدي بعد الفكر الاعتزالي هو قولهم بجواز قيام إمامين للمسلمين في مكان واحد، الأمر الذي تسبب في حروب دموية أُزهِقت فيها آلاف الأرواح، ولو كان حكم أئمة الزيود لخمسين أو مئة سنة بهذه المعتقدات لكان الخطب جلل، فكيف وقد امتدت فترة حكمهم لقرابة الألف عام تتابع عليها 77 إماماً على اليمن..؟!
إن حكمهم لبلاد اليمن كان ولا شك نكبة على ذلك القطر الإسلامي
العريق.
أمر الخليفة سليم خان الثاني القائد سنان باشا بالمسير إلى اليمن والسيطرة عليها وإعادة هيبة الإمبراطورية التي هزها الإمام المطهر بن يحيى، فانطلق سنان باشا إلى مصر مكان احتشاد جنوده ونقطة الانطلاق المعتادة للعمليات العسكرية العثمانية في المنطقة، وفيها جنّد سنان كل من يستطيع حمل السلاح، واستقطب المقاتلين العثمانيين من بلاد الشام وضمّهم إلى جيشه وووصل تعداد جيشه إلى 80 ألف مقاتل، حتى ليظن الرائي أن هذا الجيش العرمرم ذاهبٌ ليسترد الأندلس التي سقطت منذ سنوات قليلة وليحارب مملكة إسبانيا والبرتغال؛ وليس لقتال إمام الزيود في اليمن!.
تحرك الجيش العثماني حتى وصل إلى
مكة، وهناك التقى بقاضي القضاة وأعيان الحجاز، فأعاد سنان باشا فيها ضبط أمور جيشه
وأجرى بعض الإصلاحات في الحجاز وأنفق على فقراء مكة وأحسن إليهم ثم أكمل مسيره
بجيشه الجرار جنوباً باتجاه جازان التابعة للإمام المطهر وهو على تعبئة استعداداً
لأولى المعارك.
وصل خبر الزحف العثماني لوالي الإمام على جازان، وبدأ بمراسلة الإمام لكن المدد لم يأتِ، فما أن اقترب العثمانيون منه أكثر حتى فرّ الوالي الزيدي ورجاله جنوباً بعد أن أيقنوا
باستحالة صد هذا الهجوم الكبير.
دخل سنان باشا ورجاله جازان بكل يسر
وأقام بها مدة من الزمن أقبل عليه فيها أعيان المنطقة ورؤوسهم من أهل صبيا وما
جاورها يطلبوه الأمان ويبايعوا على السمع والطاعة، فأكرمهم سنان باشا وأمّنهم وخلع
عليهم.
القائد الألباني القوي سنان باشا العثماني
في تلك الأثناء وصلت الأخبار إلى سنان باشا أن الوالي العثماني ورجاله في تعز في كربٍ عظيم من رجال المطهر وقد أطبق عليهم الحصار بإحكام، فصاروا في جوعٍ وحالة يرثى لها وقد شارفت المدينة على السقوط بيد المطهر ورجاله، فتحرك بأقصى سرعة وسار مباشرة إلى تعز التي ما أن وصلها حتى هرب الزيود منه وتحصنوا في جبل الأغبر بعد أن أفزعهم ما رأوا من كثافة الجيش العثماني، فأمر سنان باشا بتمشيط الجبل واقتحامه لمطاردتهم، فاضطر الزيود للخروج من مخابئهم لتبدأ أولى المعارك بين سنان باشا والإمام المطهر وانتهت باكتساح عثماني وسيطرة الكاملة على المنطقة.
لم يشأ سنان باشا الهجوم على صنعاء
والمرتفعات الزيدية الشمالية قبل أن يؤمن الساحل والجنوب، فحرر زبيد وطرد الزيود
منها، ثم اقتطع جزءاً من جيشه لتحرير عدن المدينة الاستراتيجية، وكان حاكم
المدينة للإمام المطهر هو قاسم بن شويع أحد أبرز قادة الزيدية، والذي ما أن تولى حكم عدن حتى أظهر الزيدية فيها بقوة ودعا إليها وأسس فيها مدرسة باسم المطهر لتدريس
المذهب الزيدي، فلأجل ذلك كرهه أهل عدن، فهم سُنة شافعية، ولم يستطيعوا مقاومة
إجراءات قاسم بن شويع الذي حكمهم بالحديد والنار، واستبشروا بوصول العثمانيين
وهزيمة الزيود في تعز وزبيد.
أدرك قاسم بن شويع أن وضع إمامه حرج ولن يستطيع إمداده لصد العثمانيين، ولا يستطيع تجنيد أهالي عدن للقتال معه فهم له كارهون، وسينقلبون عليه وعلى رجاله لا محالة إذا حمي الوطيس، فراسل هذا الخسيس البرتغاليين يطلب منهم العون على قتال العدو العثماني المشترك ولينقذوا المدينة لئلا تسقط، فوصلت سفينة برتغالية إلى ميناء عدن تحمل عشرين برتغالياً للتفاوض مع ابن شويع.
بعد اتفاقهم أخذهم ابن شويع وأطلعهم على كل زوايا المدينة وأسوارها وتحصيناتها، وأخبرهم بنقاط ضعفها وقوتها، بل وزودهم بالأموال والمدافع والبارود كي يدافعوا عن المدينة، ثم عاد البرتغاليون إلى سفينتهم ومنها إلى أسطولهم الرئيسي استعداداً للمعركة. وكان سنان باشا قد قسم جيشه المتجه إلى عدن لقسمين؛ بري بقيادة الأمير ماحي، وبحري بقيادة القبطان خير الدين قورت أوغلي، ليُضرب بذلك الزيود في عدن من البر والبحر فلا يستطيعوا المقاومة ..
أبحر الأسطول العثماني بمحاذاة الساحل
اليمني حتى وصلوا مشارف عدن فرأى القبطان خير الدين أمامه 20 راية مسيحية ترفرف من
بعيد، فعلم أنه الأسطول البرتغالي فأمر بتتبعه، وجد البرتغاليون أنفسهم أمام السفن
العثمانية المتجهة نحوهم بدلاً من الرسو في ميناء عدن فولّوا هاربين دون قتال،
تاركين وراءهم قاسم بن شويع وحيداً يواجه مصيره المحتوم وقد أخذوا منه الأموال
والمدافع ووعدوه بالنصرة، وبعد أن اطمأن العثمانيون على فرار البرتغاليين الكامل
عادوا إلى عدن ووجهوا مدافعهم تجاه قلعة عدن التي يتحصن بها ابن شويع ورجاله
انتظاراً للهجوم البري.
وصل الأمير ماحي برجاله وأحاطوا عدن ودخلوها من كل باب وقد أمّن العثمانيون أهالي المدينة، وابتدأت الاشتباكات في
الطرقات وهنا اندلعت نيران المدافع العثمانية من البحر على المدينة، فسقطت
القلعة ودخلها العثمانيون وقام أهالي عدن مع العثمانيين وقاتلوا الزيود ببسالة،
واستطاع الأهالي أن يأسروا قاسم بن شويع بنفسه ويأسروا حريمه وأطفاله وأهله،
وأخذوهم للقادة العثمانيين، فأخذ الأمير ماحي ابن شويع وقطع رأسه، ثم أراد أن يقتل
أهله وبنيه جميعاً لكن القبطان خير الدين منعه من ذلك، وبذلك سيطر العثمانيون على
عدن من جديد .. وفور وصول أخبار الانتصار العثماني الكبير على رجال المطهر وتحرير
عدن ؛ عمت الأفراح تعز وزبيد وغيرها، وعُلّقت الزينة وكان أشبه الأيام بالعيد.
فرغ سنان باشا بذلك من جنوب اليمن
وحانت ساعة الانقضاض على مرتفعات الزيود الشمالية، فقصد ذمار التي يقيم بها الإمام
المطهر تلك الفترة كخطوة أولى قبل المسير إلى صنعاء ، وأعلن سنان باشا الأمان
لأهالي ذمار على أن لا يعاونوا المطهر ورجاله، فاضطر المطهر حينئذٍ إلى الفرار منها
وقد نقل معه كل ما في الخزينة، فدخلت ذمار في طاعة العثمانيين ثم أكمل سنان باشا
زحفه ودخل إلى صنعاء دون قتال في مشهد مهيب، وكان السكان قد توجسوا خيفة مما
سيفعله العثمانيون بهم، لكن سنان باشا أصدر عفواً عاماً عن أهالي صنعاء فاطمأنت
نفوسهم ودخل عليه أعيانهم ليبايعوا على السمع والطاعة.
لم يمكث سنان باشا في صنعاء مدة
طويلة، بل أراد الهجوم على كوكبان أحد أكبر مراكز القوة للمطهر، ثم الهجوم على
مدينة ثلا عاصمة دولة المطهر ومركزه الرئيسي، وكان الإمام المطهر قد أيقن أنها
مسألة حياة أو موت له، وعليه القتال حتى النهاية بكل قوة، فراسل القبائل
الموالية وحرك فيهم الحمية والغيرة لنصرته، وكتب إلى أبنائه عمّال المدن من حوله
بأن يرسلوا إليه الرجال، فاحتشد عنده الألوف، فاشتعلت حينئذٍ المعارك المتتالية
بين الزيود والعثمانيين حتى انتهت بتوقيع هدنة كوكبان بين الطرفين بعد أن عجز
العثمانيون عن القضاء عليه بشكل كامل، وفي سنة 980هـ|1571م توفي الإمام المطهر بن
يحيى شرف الدين في بيته مسموماً وله من العمر 69 سنة، وكان بسبب السم ترتفع حرارته جداً ويبول
دماً، وظل يتعذب حتى مات وعلى الباغي تدور الدوائر ولا راد لقضاء الله.
وبموت المطهر انقسم الزيدية فيما
بينهم، وهذا كما ذكرت آنفاً من سوءات المذهب الزيدي الذي يجيز الخروج على الحاكم
المسلم، ويجيز ظهور إمامين للمسلمين في آن واحد، فتنافس أبناء المطهر من بعده على
الإمامة مما أضعف شوكتهم، فبويع علي يحيى بن المطهر إماماً في العاصمة ثلا، وبويع
لطف الله بن المطهر إماماً في ذي مرمر وما حولها، وبويع غوث الدين بن المطهر
إماماً في عفار وما حولها، وبويع عبدالرحمن بن المطهر إماماً في حجة وما حولها،
وخرج ابن عمهم أحمد بن الحسين المؤيدي وبويع إماماً في صعدة وما حولها، واستقلّ
كلٌ منهم بمنطقته وحكمه، وتفرّقت الناس بعد المطهر شعباً وكل ذلك كان في صالح
العثمانيين، وابتدأ بين هؤلاء الأئمة النفرة والصراع، وحدثت أولاها سريعاً بين علي
يحيى إمام ثلا ولطف الله إمام ذي مرمر صدام مسلح انتصر فيه لطف الله انتصاراً
كبيراً، وبعد تلك المعارك بفترة بسيطة وقعة الوحشة بين علي يحيى وبين عبدالرحمن إمام حجة وابتدأت
الحروب بينهم .. وكأنها ببؤسها حِقب ملوك الطوائف في الأندلس .. وكان العثمانيون يدعمون طرفاً
على آخر في الحروب لخلخلة الصف الزيدي أكثر وأكثر، وقد سبق لسنان باشا أن ترك
اليمن قبل ذلك وتوجه للهند بجيشه وتولى اليمن من بعده عدة ولاة.
وفي أثناء ولاية مراد باشا العثماني
وتحديداً في سنة 986هـ تمت البيعة في منطقة الأهنوم للإمام الزيدي الحسن بن علي بن
داوود المؤيدي، الأمر الذي أغضب أبناء المطهر وأعلنوا الحرب عليه، الحرب التي
أراقت سيلاً من الدماء ..
وبعدها بسنة واحدة عُزل مراد باشا
الذي كان رحيماً يميل إلى السلم، وتولى بعده القائد الشرس حسن
باشا ولاية اليمن، واستقدم معه بعد ذلك وزيره الكيخيا سنان، والذي أصبح فيما بعد
سنان باشا -وهو غير سنان باشا الأول- وبدأ حسن باشا ومعه وزيره الكيخيا سنان بالحرب على
بلاد الزيود المنهكين من الحروب فيما بينهم وذلك سنة 989هـ وسيطروا على ريمة وما
حولها .. وفي السنة التالية أعلن حسن باشا العثماني الحرب على أبناء المطهر
جميعاً، وكأن العثمانيون قد أعدّوا لهذا اليوم عدته، فبينما كان الزيود يتقاتلون
فيما بينهم كانت قوة العثمانيين واستعداداتهم تزداد شيئاً فشيئاً.
أرسل حسن باشا وزيره الكيخيا سنان بجيش كبير وكان هدفهم الأول هو الإمام أحمد بن الحسين في صعدة أقصى الشمال، لكن الخطة تغيرت وزحف بجيشه نحو علي يحيى إمام ثلا أولاً لأنه أراد نصرة الإمام أحمد بن الحسين، فانتصر الكيخيا سنان عليه لكنه استطاع الفرار، ثم انتصر الكيخيا سنان بعد ذلك على لطف الله الذي فر إلى الإمام الحسن بن علي واحتمى به، ثم انتصر على أحمد بن الحسين إمام صعده وقتله، وهزم غيره من أمراء الزيود في شتى أرجاء البلاد اليمنية، وكانت القوات العثمانية تلك الفترة كالإعصار لا يقف أمامه شيء، فقتل الكيخيا سنان منهم مقتلة عظيمة، ومن نجا من الأسرة الزيدية فر إلى الإمام الحسن بن علي واحتمى به، ثم هجم ألكيخيا على الإمام عبدالرحمن بن المطهر وهزمه أيضاً وقتله ..
كانت أخبار انتصارات حسن باشا والكيخيا سنان
تتوالى على الخليفة مراد الثالث العثماني الذي خلف سليم الثاني على عرش السلطنة العثمانية.
في السنوات القليلة التالية ابتدأت
المعارك بين حسن باشا والكيخيا سنان وبين الإمام الحسن بن علي آخر الزيود
الأقوياء، واستمر أمر الإمام الحسن في إدبار وأمر الكيخيا سنان في إقبال حتى وجد الإمام الحسن نفسه محاصراً
ومضطراً للمصالحة، فكاتب العثمانيين يعرض عليهم الصلح والاستسلام على أن يعطوه الأمان، فوافق
حسن باشا على عرضه وأمّنه واستقدمه لصنعاء، وما أن دخل الإمام الحسن إلى صنعاء حتى
نكث حسن باشا عهده وأمانه وألقى القبض عليه سنة 993هـ، وليس ذلك بمستغرباً على العثمانيين، فتلك كانت سياستهم تجاه في إدارة شؤون ولاية اليمن، الشدة والنكال والغدر والقسوة
دون مراعاة لطبيعة الإنسان اليمني ذي الحمية والإباء والعصبية لبني قومه، واستمرت سياساتهم هكذا بشكلٍ عام حتى صلح دعان 1911م بين العثمانيين والإمام المتوكل على الله يحي
حميد الدين الذي جرّعهم هزائم مريرة.
وفي السنة التالية قبض حسن باشا على
أولاد المطهر لطف الله وعلي يحيى وغوث الدين وحفظ الله وابن أخيهم محمد بن الهادي بن المطهر،
وكان ذلك أيضاً بالغدر بعد أن أمّنهم ووعدهم بالحفظ والإكرام، وزجّهم جميعاً في السجن مع
ابن عمهم الإمام الحسن بن علي، ثم وصل لحسن باشا مرسوم سلطاني من إسطنبول يأمره
فيه بإرسال أولاد المطهر إلى عاصمة الخلافة، فأخذهم الكيخيا إلى ميناء المخا ومنه
بالبحر إلى إسطنبول، ومن أعجب ما ذُكر في تلك الفترة أن الإمام الحسن بن علي كان يلازمه
ابن عمه الصغير القاسم بن محمد ويتتلمذ عليه، وعمر القاسم وقتئذٍ 26 سنة فقط، وكان القاسم شديد التعلق بإمامه
ومعلمه، بل وحتى عندما أراد العثمانيون إرسال الإمام الحسن وأولاد المطهر إلى إسطنبول
أراد القاسم ركوب السفينة والذهاب معه فمنعه العثمانيون .. وسبحان الله؛ فالقاسم
هذا هو من سيكون بعد 12 سنة الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد قائد واحدة من أكبر
الثورات على العثمانيين في تاريخ اليمن عام 1006هـ.
استغرقنا صفحات طويلة في ذكر أخبار المطهر وأبنائه، ولم يسعنا في هذا المقال أن نكمل قصة الإمام القاسم و داعيته يوسف الحماطي مع الكيخيا سنان كما وعدنا، ولعلنا نفرد لها المقال القادم بإذن الله.
دمتم في حفظ الله ورعايته
عبدالله بن علي الحماطي
ننتظر الرابع بفارق الصبر
ردحذف