موجز حكاية العثمانيين في اليمن (4): الإمام القاسم والثورة من جديد .. جبهة الحماطي ضد العثمانيين
موجز حكاية العثمانيين في اليمن (4):
الإمام القاسم والثورة من جديد .. جبهة الحماطي ضد
العثمانيين
أبحرت سفينة الأئمة المأسورين إلى
إسطنبول ليلفظوا آخر أنفاسهم فيها بعيدًا عن عروشهم وأملاكهم، وعلى لسان حالهم يسقط قول
ابن زريق البغدادي:
رُزِقتُ
مُلكاً فَلَم أَحسِــن سِيـاسَتَهُ
وَكُلُّ
مَن لا يُسُوسُ المُلكَ يَخلَعُهُ
صفت الأجواء للقوات العثمانية لبسط
سيطرتها ونفوذها في الأراضية اليمنية، وتفرّغوا لمن استعصى عليهم كقبائل يافع التي
رفضت الإذعان، فسار إليهم الكيخيا سنان وشتت شملهم وجعل عاليها سافلها ومزّقهم كل
ممزق حتى أعلنوا الطاعة والاستسلام بعد أن صير بلادهم خراباً، ثم عاد هو ورجاله إلى صنعاء مزهوًّا بنصره فأكرمه الوالي حسن باشا غاية الإكرام، وأسبغ عليه
وعلى رجاله الخِلع والأموال والجوائز وذلك في سنة 1000هـ.
شعر حسن باشا أن الأمور استقرت له فبدأ
بإصلاح أمور البلاد إداريًا، فولى البعض وعزل آخرين عن مناطق اليمن، كما عيّن ولده
حسين نائباً عنه في تعز وما حولها لأهميتها .. وفي نفس الفترة التي هدأت فيها
اليمن كانت إسطنبول مضطربة؛ أولاً لوفاة الخليفة مراد بن سليم الثاني، واعتلاء ابنه
الخليفة محمد الثالث ابن مراد عرش السلطنة العثمانية، ثم بعدها مباشرة اشتعال
المعارك على الجبهة الأوروبية بين العثمانيين والنمساويين وقد كان الضعف والفساد
بدأ يتخلل في نسيج الدولة العثمانية.
دعونا نقف قليلاً مع السلطان محمد
الثالث هذا ..
ولد محمد الثالث عام 974هـ|1566م، وأمه
جارية إيطالية، وتولى عرش السلطنة وعمره 29 سنة فقط، وكان قوياً قاسياً قتل جميع إخوته
الذكور كعادة العثمانيين لئلا ينافسوه على العرش، والملفت أن المذبحة تمت قبل حتى
أن يُدفن أباه ! .. ومما يحسب لمحمد الثالث أنه الخليفة المتأخر الوحيد الذي قاد المعارك بنفسه، فقد امتنع الخلفاء العثمانيون منذ سنوات طويلة عن القتال في ساحات الوغى، حيث
يرسلون القادة بالجيوش ويمكثون هم في قصورهم ينتظرون الأخبار .. فبسبب الضعف الذي عانته السلطنة العثمانية أقنع الشيوخ والوزراء؛ الخليفة بأنه إن نزل بنفسه وقاد
الجيش ورأى الجنود خليفتهم يقاتل معهم في ميدان المعركة فستُستثار حميتهم وغيرتهم،
وهذا بالفعل الذي حصل، واستطاع محمد الثالث أن ينتصر انتصارات كبيرة في أوروبا
شُبّه بعضها بانتصارات سليمان القانوني التاريخية.
نعود إلى اليمن ونقول ..
عندما أبحرت سفينة الأئمة الزيود إلى
إسطنبول كان أشد القلوب انكساراً قلب القاسم بن محمد الشاب ذي الـ26 عاماً الذي
ودّع بالدموع إمامه وابن عمه ومعلمه الأكبر الحسن بن علي، وقد حرمه العثمانيون منه
ومن مصاحبته حتى ولو إلى لقاء حتفه، فضمّ القاسم بين جنبيه بعد هذا الموقف حقداً دفيناً على العثمانيين يتنامى شيئاً فشيئاً مع مرور السنين، ولم يدرِ العثمانيون أنهم بمنعهم القاسم من السفر فهم يقرّبون نهايتهم إليهم بأيديهم، ولا راد لقضاء الله.
تفرّغ القاسم بعد ذلك لطلب العلم
الشرعي على مذهب الزيدية المعتزلة، حتى صار يُشار إليه فيه بالبنان في مدة قصيرة،
وله العديد من المؤلفات التي لا تزال موجودة إلى يومنا الحاضر، وأصبحت حلقاته التي
يدرس بها تعم بالطلاب والمريدين، وبلغت شهرته أقصى جبال اليمن رغم صغر سنه.
كان طلاب القاسم يعرفون له فضله
وصحبته للإمام الحسن، وهو ابن عمه ومن بيت الأئمة الزيدي، فصاروا يضغطون عليه لأن يُعلن الأمر ويدعو لنفسه بالإمامة فهو الأحق بها، وأيضاً فقد تذمر الناس من ظلم
العثمانيين وتعسف حسن باشا ونوابه الذين أذاقوا اليمنيين الأمرّين، فجُلهم بلا شك
سيهبّون معه هبّة رجلٍ واحد، لكن القاسم لا يرفض الفكرة ولا يوافق عليها.
طبعاً وكأي حكم قائم على العسف
والظلم، كان العثمانيون يراقبون كل من قد يشكل خطر عليهم، وخصوصاً من كان ذا شعبية من آل البيت الإمامي الزيدي، فوصلت إليهم شائعات مفادها أن القاسم سيدعو لنفسه ويثور قريباً، فأصدر عامل العثمانيين أمره بالقبض على القاسم الذي فرّ قبل ذلك
واختبأ في الجبال، متنقلاً بينهم مطارداً من عدوهم، فقيراً معدماً كما وصفه
مؤرخو الزيود، ولم يستطع العثمانيون رغم سعيهم الحثيث الإمساك به.
وفي شهر صفر من سنة 1006هـ حانت الساعة المنتظرة وأعلن الإمام
القاسم بن محمد الثورة على العثمانيين بصفته إماماً على اليمن، ودعا الناس
لمبايعته وتلقّب بـ(الإمام المنصور بالله)، وكان ذلك في منطقة الشرَف وتحديداً في
قارة حديد .. وتوافد الناس للبيعة والنصرة حتى تجمع حوله 400 مقاتل من
الرجال المخلصين، ولم ينتظر ليزداد جيشه بل عزم المسير بمن معه يستفتح بهم
دولته.
وكان عامل تلك المنطقة الأمير حسين بن
ناصر غائباً لم يرجع من الحج بعد، فتولى نائبه إدارة الأمور وأخذ من معه من الجنود
وتحرك إلى القاسم ورجاله ليقمع ثورته في بدايتها، فوقعت أولى المعارك بين قوات العثمانيين والإمام
القاسم فانتصر الأخير انتصارًا كبيراً ، وسار بعد المعركة يستحوذ على القرى والحصون
في طريقه.
وصلت أخبار الثورة والهزيمة إلى والي
اليمن حسن باشا، فأيقن أن سنوات الراحة قد ولت وأن ليالي الحروب والدماء عادت
من جديد، فجهز عسكراً كثيفاً من صنعاء مع القائد عبدالله بن المعافا وأمره بالسير
إلى منطقة الأهنوم في حجة استعداداً للاصطدام مع قوات الإمام .. وكان عامل حجة الأمير
عبدالرحيم بن عبدالرحمن قد تحرك بعسكره أيضاً نحو الإمام القاسم، وتوافدت العساكر
العثمانية من كل مكان لقمع الثورة قبل أن يتطاير شررها فتعم جميع مناطق اليمن، فالبلاد
كصندوق البارود شديد الاشتعال، وكثير من اليمنيين ينتظرون الفرصة لضرب العثمانيين
لما لاقوه من جورهم وظلمهم.
رأى الإمام القاسم أن العساكر
العثمانية تنهمر عليه من كل جانب، فاستصرخ القبائل ودعا أنصاره للاجتماع إليه، علّه
يتمكن من صد الهجوم العثماني .. ورغم كل المدد الذي أتى للقاسم إلا أنه تحت الهجوم
العثماني الكبير هُزم مع رجاله هزيمة نكراء، اضطر بسببها إلى التراجع والاختباء في
أحد الأودية ليلملم أشتاته ويعيد تجميع رجاله، وبعد ذلك تحرك بمن معه إلى قرى الوعر فهرب
منها عامل العثمانيين لكن الأهالي بأنفسهم قاوموه ورفضوا البيعة أو دخوله إليهم، ولم يستطع القاسم
هزيمتهم، وعرف أن العسكر العثماني قادمٌ إليه من كل جانب مرة أخرى فآثر الانسحاب،
وفرّق أصحابه في المناطق ليسهل عليهم الاختباء حتى تهدأ فورة العثمانيين، وسار هو
بنفسه إلى جبل برط واحتمى فيه ..
ومن العجيب في هذا الحدث مراسلة النائب قرة جمعة عامل صعدة العثماني لأحد مشايخ القبائل في جبل برط يدعى الشيخ عبيد البرطي وبذل قرة
جمعة له أموالاً جزيلة ووعده ومنّاه على أن يقبض الشيخ البرطي على الإمام القاسم
ويسلمه للعثمانيين .. فما كان من الشيخ البرطي إلا أن أخذ أموال العثمانيين وذهب
بها إلى الإمام القاسم وأعطاه إياها وأخبره بعرضهم وطمأنه بأنه يستحيل أن يغدر به وقد أمّنه، فشكره
القاسم ورفض قبول المال منه فأرجعه الشيخ البرطي إلى قرة جمعة.
لم يكن الإمام القاسم أثناء مكوثه في
جبل برط ساكناً منتظراً، بل العكس كان كثير الرسائل والوفود والإنفاذ، وقد انتشر
دعاته في جبال اليمن يحضّون الناس على بيعته، ويساعده صيته قبل ذلك كعالم
وفقيه زيدي يشار إليه بالبنان، وأنه تلميذ الإمام الحسن بن علي .. وفي أحد الأيام
أنفذ الإمام أحد رجاله يدعى الحاج أحمد الشاطبي ومعه الحاج أحمد علي دعيس على رأس
جيشٍ قوامه 1000 مقاتل من قبائل حاشد وبكيل والظاهر ليشتبكوا مع عساكر عثمانية متمركزة في
تلك المناطق، فانتصر الزيود وقتلوا من العثمانيين وانتهبوا أسلحتهم وحاصروهم، ولم
يُنقِذ العثمانيين يومئذٍ إلا التعزيزات التي جاءتهم من منطقة خَمِر فكسرت الحصار
واضطر الزيود للانسحاب، وهكذا كانت ثورة الإمام القاسم؛ سجالاً، سنين من
القتال بلا إنهاء لأي طرف.
ومن مراسلات الإمام القاسم ما كان
بينه وبين الفقيه الزيدي يوسف بن علي الحماطي قاضي بلاد الحيمة -بين صنعاء
والمحويت- وشيخ قبائلها في نفس الوقت، فبايعه الحماطي ووعده بالنصرة، وكان الحماطي
قبل ثورة القاسم آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر في الحيمة، يفعل ما يفعله
المحتسب من تعليم وإرشاد اجتهاداً منه رغم أنه شيخ مشايخ الحيمة، وقام يحضّ أتباعه
وأهالي الحيمة جميعاً على مبايعة الإمام القاسم، ويذكر لهم محاسنه ومثالب العثمانيين،
واستنهضهم للقتال معه وطرد العثمانيين من اليمن، فاستجاب الناس له واستطاع أن يجمع منهم جمعاً لا بأس
به من المقاتلين ينصر بهم إمامه، وكتب إلى الإمام القاسم يبشّره بمبايعة أهالي الحيمة
ودخولهم في طاعة الإمام، ويطلب منه المدد كي يفتح جبهة قتال جديدة ضد العثمانيين.
استبشر الإمام القاسم برسالة الحماطي، وجهز العساكر مدداً إليه وفيهم من آل البيت الزيدي الأمير عامر بن علي الزيدي والأمير محمد القراع الزيدي، وأمده بما يستطيع من أموال وسلاح، فقام الحماطي بدوره بإعلان الثورة على العثمانيين في الحيمة وقام بتتبع قواتهم وضربهم ..
وصلت أخبار
الحماطي إلى حسن باشا في صنعاء فاستشاط غضباً واستدعى قائده القوي الكيخيا سنان وقواته،
وهو الذي كان على الجبهة يقاتل جيوش الإمام، ودفع به حسن باشا إلى بلاد الحيمة
كي ينهي تمرد الحماطي.
لم يكتفِ الحماطي بالقتال في الحيمة،
بل أخذ قواته وزحف بهم جنوباً إلى ذمار وقبلها آنس، فشغب بها أيما شغب، واشتبك مع
العثمانيين عدة مرات وهزمهم، ولم يستطع العثمانيون في ذمار صد هجمات الحماطي ومن
معه لانتشار معظم القوات في حجة وجبل برط والمناطق حولها لحرب الإمام، فسيطر
الحماطي على طرقها الرئيسية ومنع الداخل والخارج، وترصّد للقوافل العثمانية
العابرة من وإلى صنعاء، وقد كانت الأخبار تتوالى على حسن باشا في صنعاء وقد أُسقِط
في يده، وأدت أخبار الحماطي المتتالية على العثمانيين أن شددوا على كل من يرونه من الحيمة، سواء في صنعاء أو غيرها
بغضاً لهم.
سيطر الحماطي على ذمار مع الحيمة، وصارت
جبهة زيدية قوية في خاصرة العثمانيين في صنعاء، وانتقل الحماطي للاستقرار في ذمار
واتخذها قاعدة لتحرك قواته في المنطقة، بل واتخذ له زوجة من بيوت ذمار، فأعطى ذلك انطباعاً
قوياً للعثمانيين أن الرجل ولا بد قد تمكن مما تحت يده، فزاده هيبة في قلوبهم،
وتوالت أخبار انتصاراته إلى الإمام القاسم وصار عَلماً بين رجاله.
انطلق الكيخيا سنان بجيشه الكبير وفيه كتائب من أنصار العثمانيين من قبائل سنحان وخولان وهمدان، فاصطدم به الأمير عامر الزيدي بفرقة من جيش الحماطي وهزموا الكيخيا سنان شر هزيمة، بل كادوا أن يأسروه لولا أن لطف الله به فاستطاع الانسحاب، وغنموا سلاحهم وذخائرهم وأموالهم، لكن الكيخيا سنان جمع رجاله من جديد واستأنف حربه مع الحماطي والأمراء الزيود، وشدد وطأته على أهالي الحيمة حتى أنه أمر رجاله إذا أسروا أحداً من الحيمة في معركة ما أن يقتلوه سلخاً! ..
ومما يُذكر عن هذا الأمر أنهم أمسكوا بعد إحدى المعارك ضد الحماطي بفتاة من الحيمة كانت في معسكر النساء والأطفال لجيش الحماطي، فسلخوها حية في كوكبان وهي تبكي وتستغيث بأهالي كوكبان ولا مجيب والله المستعان.
وفي أحد الأيام وردت الأخبار إلى الشيخ الحماطي أثناء مقامه في ذمار أن الكيخيا سنان متوجهٌ إليه بجيشٍ عرمرم، فعلم الحماطي أنها معركة صعبة، فقام وبدأ بإعداد الجيش والخطة والرجال والزاد والخيل والبنادق والذخائر ووووو، بكل جد واجتهاد .. لكن الأخبار جاءته لاحقاً أن قائد الجيش ليس الكيخيا سنان، بل أرسل بدلاً عنه أحد رجاله يدعى أحمد بن يوسف الواعظ قائداً على الجيش، والعجيب أن الواعظ هذا كان من العبّاد الزهّاد الملازمين للمساجد، وكان يعظ الناس ويأمرهم وينهاهم، لكن الدنيا فتنته واقترب من الأمراء العثمانيين، وانضم إليهم وأصبح من "مشايخ السلاطين" يفتي بأهواء الأمراء وهم بدورهم يغدقون عليه الأموال والجوائز، وبلغت به الحظوة عندهم أن جعله الكيخيا سنان قائداً على جيش سيقود معركة ضد أحد أخطر القادة والجبهات في ثورة الإمام القاسم! وسبحان ربي له الأمر من قبل ومن بعد ..
تقاعس الحماطي بعد أن علم أن الواعظ على الجيش بدلاً من سنان، وترك الاستعداد والحذر وركن إلى الراحة وأيقن أنها معركة سهلة وحلقة جديدة في سلسلة انتصاراته الكبيرة على العثمانيين .. وبهذا الغرور أُتي الحماطي من مأمنه، وانهزم هزيمة ساحقة تشتت بها رجاله، بل وقع هو نفسه في الأسر، فأرسله الواعظ مباشرة إلى حسن باشا في صنعاء فطار به فرحاً، ونزل خبر الهزيمة والأسر على الإمام القاسم كالصاعقة، وأصدر حسن باشا أمره بإعدام الحماطي سلخاً وهو حي في سجنه.
مشاهد مؤلمة حملتها صفحات التاريخ العثماني-اليمني ، إجرام الطرفين في بعضهما دفع ثمنه في المقام الأول عامة الشعب المساكين، ولم يكن الضرر والتضحية بدنية مادية فحسب؛ إذن لهان الخطب، بل دينية عقائدية وهذا هو الأمر الأمَرّ، فمن ذاق عذاب العثمانيين وظلمهم وجورهم ينحاز مباشرة لأئمة الزيود معتنقاً دينهم الضلالي الاعتزالي بل ويزداد رسوخاً فيه بدافع الحقد، ومن تضرر من ضربات الأئمة وإجرامهم انحاز للعثمانيين وتوحش على الشعب وناصب آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم العداء بشكلٍ كامل، ولم يفرّق بين سني وشيعي، على هدى أم على ضلال.
نسأل الله أن يصلح أحوال المسلمين، فمآسي
الماضي لازالت آثارها باقية إلى اليوم
في أمان الله
عبدالله بن علي الحماطي
عز الله يعز الحماطية
ردحذف