موجز حكاية العثمانيين في اليمن (6): هزائم الإمام القاسم المستمرة في سنة 1007هـ العجيبة

 

موجز حكاية العثمانيين في اليمن (6):

هزائم الإمام القاسم المستمرة في سنة 1007هـ العجيبة

 

    مع دخول سنة 1007هـ تفاءل اليمنيون بتحسن الأحوال كعادة الشعوب المغلوبة على أمرها، فهي تمنّي نفسها عند دخول شهر جديد أو فصل جديد أو سنة جديدة بأن يكون الساسة قد نووا تخفيف حدة التصعيد فيها رأفة بهم .. لكن سنة 1007هـ لم تكن إلا أخت التي سبقتها، وسِفراً جديداً من كتاب المضحك المبكي، الكتاب الطافح بقصص الغدر المستمر بين العثمانيين والإماميين ..




    في خضم المعارك المشتعلة بين الوالي حسن باشا ورجله القوي الكيخيا سنان ضد الإمام القاسم، حاصر الجيش الإمامي في الجبال الشمالية قوات الأمير عبدالرحيم؛ فاستنجد الأخير بالكيخيا سنان الذي لبّاه بنفسه على رأس جيشٍ كثيف، واشتبك مع الإماميين وكسرهم وفك الحصار، ثم عاد الكيخيا سنان إلى صنعاء وبعث بالأمير عبدالرحيم إلى حصن أنود قرب كوكبان ..

ولما رأى والي الإمام القاسم في منطقة ثلا السيد الحسن بن شرف الدين الكحلاني ومعه الفقيه علي الشهاري؛ ركون الكيخيا سنان للراحة في صنعاء، وانشغال الأمير عبدالرحيم وجيشه؛ جهز فرقة من الفرسان والعساكر الإمامية تسير ليلاً لغزو قرية شبام كوكبان في منطقة المحويت، بهدف السيطرة عليها وأخذها على حين غرة من العثمانيين ..

فجعل على رأس الفرقة الأمير أحمد بن محمد الزيدي، ويسانده الأمير لطف الله ابن رضي الدين ابن الإمام شرف الدين ..

وتحرك العسكر في سرّية تامة تسترهم ظلمة الليل الدامس حتى شارفوا أسوار المدينة، فظلّوا يقتربون منها رويداً رويداً لئلا يفتضح أمرهم، وكلٌّ منهم يراقب حتى أنفاسه لئلا يعلو صوتها ..

وفجأة..!

خرج من أحد اصطبلات المدينة ثورٌ هائج استطاع الفكاك، فركض تجاههم بسرعة كبيرة، وكان يحمل على صدره جرساً حديدياً فأصدر جلبة كبيرة !!

ففزع العساكر لهذه الجلبة في هذا الليل أيمّا فزع، وظنوا أن خيل العثمانيين في شبام قد خرجوا، فتراكضوا فارّين منهزمين من دون قتال..!!

وتخلخل نظامهم وتشرذموا كل تشرذم، وسقط ثلاثة منهم في بئرٍ لم يروها أثناء ركضهم لشدة الظلمة، فلم يلتفت إليهم أحد وأكملوا فرارهم إلى ثلا ..

وعند شروق الشمس كان الثلاثة المحبوسون في البئر قد افتضح أمرهم، فأخرجهم العثمانيون بعد أن سخروا منهم بأن الثور أفزعهم بلا قتال، ثم أعدموهم.

وحريٌّ بـ إريك دورتشميد لو علم بهذه القصة أن يدخلها في كتابه (دور الصدفة والغباء في تغيير مجرى التاريخ)..!


****


    وفي نفس السنة تحرك الأمير عبدالرحيم بجيشه إلى قرية عفار في منطقة حجة لينازلها فافتتحها، ثم تحرك إلى الظفير في حجة أيضاً وحاصرها وتمنّعت عليه فضيق عليها الحصار أكثر، وكان متوليها هو الأمير محمد ابن الإمام القاسم الذي أرسله أبوه بجيشٍ للدفاع عن المدينة، فأبدى أهالي الظفير والقوات الإمامية بها مقاومة باسلة ..

وفي أحد أيام القتال وقد حمي الوطيس أصابت رصاصة بندقية فكّ الأمير عبدالرحيم السفلي فهشّمته وأسقطت أسنانه، فحنق الأمير عبدالرحيم على أهل الظفير وضيق عليهم أكثر، وأمر رجاله بإعادة الهجوم مراراً حتى أيس الأمير محمد وأهل الظفير من المقاومة، ولكنهم علموا أن الاستسلام للأمير عبدالرحيم يعني الموت المحتم، فهو لابد فاتكٌ بهم غدراً لحقده ولشدة غيظه عليهم..!

فراسل الأمير محمد الكيخيا سنان شخصياً يعرض عليه الاستسلام له لا لعبدالرحيم، فأجابهم الكيخيا سنان وأعطاهم الأمان وأرسل نيابة عنه الأمير عبدالله بن المطهر، فاستسلموا له وخرج الأمير محمد ومشايخ الظفير بين يديه، ولم يتعرض لهم الأمير عبدالرحيم بسوء.

وأخذهم الأمير عبدالله إلى الكيخيا سنان فأكرمهم وأسبغ عليهم نعمه وطلب منهم أن يبقوا معه فاطمأنوا إليه، واستمر الأمر كما هو حتى دخل الكيخيا سنان بهم صنعاء؛ حينئذ غدر بهم وقلب لهم ظهر المجن، وزج بهم جميعاً في السجن، ومات أكثرهم فيه ونجا الأمير محمد وعاد إلى أبيه بعد ذلك بسنوات .. وويلٌ للغادر الخافر من غضب السماء!.


 ****


    ومن عجائب هذه السنة أيضاً ما فعله الكيخيا سنان في ناحية صرارة في منطقة الضالع من استمالة مشايخ تلك الجهات بالذهب الأحمر المغشوش، فاستطاع بهذه الخدعة إفسادهم وجعلهم ينقلبون على الإمام القاسم .. وشاهت الوجوه التي باعت ذممها بثمن بخس، دراهم مغشوشة..!

    وتكالبت حوادث الغدر على الإمام في هذه السنة، حيث كان الإمام مقيماً بجيشه في حصن السودة فأتته الأنباء بتحرك الكيخيا سنان بالعساكر العثمانية نحوه، فخرج بنفسه لملاقاتهم، وفي منتصف الطريق بلغه ميل قائد حصن السودة من بعده عبدالله بن المعافا إلى العثمانيين، فعاد الإمام إلى الحصن فأغلق ابن المعافا الأبواب في وجهه ومنعه، فاضطر الإمام إلى الانحياز إلى جبل الأهنوم والتحصن فيه، ووصل الكيخيا سنان بجيشه إلى الحصن وتسلّمه وأكرم ابن المعافا وأسبغ عليه نعمه وإحسانه.

    وفيها أيضاً من العجائب ما ذُكر عن الأمير عامر بن علي الزيدي الذي أرسله الإمام بالعساكر إلى الحيمة التي اضطرب أمرها بعد مقتل الشيخ الحماطي، فسار حتى أشرف على جبل تيس الذي يسيطر عليه الأمير أحمد الزيدي الموالي للعثمانيين، فهجم عليه الأمير عامر بعسكره فتشرّدت قوات الأمير أحمد فانتقل إلى الطويلة، وظل الأمير عامر يشن الهجمات المتتالية على قوات الأمير أحمد في كل مكان، واكتسح بلاده حتى وصل إلى مدينة المحويت، وحاصر عسكره قوات كبيرة للأمير أحمد في تلك المرتفعات الشاهقة .. 

ومكث الأمير عامر في المحويت يومين ثم انتقل بعدها إلى العدينة واستقر بها وهو موقنٌ بسيطرة عساكره على كل الجبهات، واستهان بعدوّه فكشفت غفلته عورته، فقد تزوج حينئذٍ جميلة من نساء العدينة، وظلّ هانئاً مع عروسه متناسياً أمر جنوده، وهو بين نفر قليل من رجاله، والبقية قد انتشروا في الجبهات جهة ردمان، وقد أشار عليه جمعٌ من رجاله بخطورة الأمر وحساسية الوقت ووجوب الارتحال، لكنه أبى إلا المضي في عزمه ..

وكان الأمير أحمد قد أرسل عسكراً من جهته بقيادة عبدالله بن صالح الرواسي لإنقاذ القوات المحاصرة في تلك المرتفعات، وفي طريقهم مرّوا على عجوز في الطريق فأخبرتهم أن الأمير عامر قد تزوج وظل في عسكرٍ قليل، فمال عسكر الرواسي إلى العدينة ليصطادوا السمكة الكبيرة ..

أحاط الرواسي ومن معه بمنزل الأمير عامر فخرج لهم مستسلماً فأسروه وأخذوه معهم إلى القوات المحاصرة في المرتفعات .. وما أن رأى العسكر قائدهم قد أُسِر حتى فتّ ذلك في عضدهم وانكسروا، واستبسل المحاصَرون لوصول النجدة لهم، فأثخنوا في عسكر الأمير عامر أيّما إثخان، وتردى بعضهم من تلك المرتفعات فراراً من الموت إلى الموت، وأسِر البعض الآخر، ونجى من كتب الله له عمراً جديداً ..

أرسل الأمير أحمد بالأمير عامر ومن معه من الأسرى إلى الكيخيا سنان في خَمِر، فقتل الكيخيا سنان الأسرى، وأمر بسلخ جلد الأمير عامر حياً هو واثنين آخرين معه .. 

وكان وقع المصيبة على نفس الإمام القاسم عظيماً، وقد رثاه بقصيدة طويلة ..

وسبحان الله..! الأمير عامر والشيخ الحماطي أودت بهما شهوتهما إلى الهلاك بنفس الطريقة .. وكذاك من لا يُلجِم النفس تهلكُه.

 

 



 

عبدالله بن علي الحماطي


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

26 سبتمبر – يوم من أيام الله

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال

القاتل الوسيم .. ورسالة للآباء !