موجز حكاية العثمانيين في اليمن (7): هزائم الإمام القاسم تستمر، وسنان باشا والياً على اليمن

 

موجز حكاية العثمانيين في اليمن (7):

هزائم الإمام القاسم تستمر .. وسنان باشا والياً على اليمن


لم تكن سنة 1007هـ جيدة على الإمام المنصور بالله القاسم بن محمد، فقد مُني بهزائم فادحة، وقُتِّلت قواته وتشرذمت في مواقع عدة؛ وخسر على إثر ذلك عدداً من المواقع، لذلك كان الحذر سمة تحركاته بعد ذلك، حتى لا تذهب ثورته أدراج الرياح.



وصلت إلى الأراضي اليمنية سنة 1008هـ تعزيزات عسكرية عثمانية قادمة من بلاد الحبشة بقيادة واليها العثماني علي باشا، فتوجه الأخير بجيشه لفتح بلاد ريمة في طريقه والسيطرة عليها، وقد ملأه الزهو بجيشه وأمواله، وأراد أن يستفتح أعماله في اليمن بانتصارات يبعثها إلى السلطان العثماني والباب العالي كي تزيد حظوته عندهم، فلما وصل لمنطقة بني الضُّبيبي من بلاد ريمة وهي مرتفعات خطرة ومليئة بالأشجار المتداخلة المتشابكة وطرقها ملتوية؛ نصحه عددٌ من ضباطه أن النزول في هذه الأرض وهذه الساعة أمر خطِرٌ على الجيوش، وقد يكمن العدو بين الأشجار وهم أدرى بالأرض ..

لكن علي باشا كان قد تملّكه الغرور بقوة جيشه وأبى إلا إكمال المسير، وأمر الجيش أن يتقدم عنه بالمسير، وبقي هو في الخلف رفقة مجموعة صغيرة تحرسه، وكان عدد من رجال القبائل في تلك المناطق والموالون للإمام القاسم قد كمنوا للقوات العثمانية بين الأشجار .. فابتدؤوا بالقسم الصغير الخلفي الذي فيه علي باشا، وكان بين القسمين مسافة وأشجار كثيفة، فخرج عليهم الإماميون بغتة وتخطفوهم، ولم يشعر بهم القسم الأمامي من الجيش العثماني، وكان علي باشا ممن قتل في تلك الهجمة، قتله غروره الذي أعماه وغطرسته التي جعلته في خبر كان ..

انسحب الإماميون بعد أن نهبوا كل ما مع علي باشا ورجاله من مال وسلاح، وتركوهم كما قال عنترة:

فَتَرَكْتُهُ جَزَرَ السّباعِ يَنُشْنَهُ

يَقضِمْنَ حُسنَ بَنانِهِ والْمِعْصَمِ


وكمنوا للقسم الأكبر من الجيش العثماني، وعند ساعة الانقضاض احتدم القتال، وقعقعة السيوف وضوضاء البارود تصمان الأذان .. وما انتهى ذلك اليوم إلا بانتصار الإماميون وفرار من كتب الله له العمر من العثمانيين إلى وصاب، ونهبوا سلاحهم وعتادهم وأموالهم .. ولمّا وصل إلى الكيخيا سنان خبر مقتل علي باشا وهزيمة جيشه المُذِلة عاد من الحيمة إلى صنعاء ليُعدّ لهذا الأمر عُدّته.

ومن الحوادث المؤلمة ما كان من أمر الإماميين وصعدة، حيث حشد الإمام القاسم قواتاً كبيرة لغزو صعدة التي يتولّها الأمير مصطفى، فجمع لهم الأخير جيشه وخرج ليلقاهم خارج المدينة، وهذا من شجاعته ورباطة جأشه .. فالتقى الجيشان واشتعل الميدان بمعركة طاحنة قُتِل الكثير فيها من الطرفين، لكن العثمانيون انتصروا فيها آخر الأمر انتصاراً كبيراً، وفرّت قوات القاسم من الميدان ليتحصنوا في أحد الجبال، فأمر الأمير مصطفى جيشه بتتبع الفارّين واستئصالهم ..

 تمزقت قوات القاسم إلى قسمين، هرب الأول إلى الجبال واستطاع الفرار، أما الثاني فقد حُوصِر في وادي رُحبان بصعدة، فعرضوا الاستسلام على الأمير مصطفى على أن يعطيهم الأمان؛ ففعل ..

فخرجوا بين يديه وهم زهاء 600 رجل، فأمر الأمير مصطفى قواته بإبادتهم جميعاً..! وكأن عهد الأمان الذي أعطاهم إياه كلمة قالها لا قيمة لها ! .. وكأن القادة العثمانيون في اليمن استمرؤوا الغدر وألِفوه وطبّعوه بينهم، فلم يعد أحدٌ منهم يفي بكلمته..! والعجيب أن الأمير مصطفى مات بعدها بفترة وجيزة ولم يهنأ بانتصاره.


وفي السنة التي تليها جمع والي اليمن العثماني حسن باشا جيوشاً جرارة في صنعاء ليغزو بها حجة مركز الإمامية ومعقل الإمام، وكأنه أراد أن يرد على حشود الإمام التي غزا بها صعدة .. ووكّل لقيادتها الأمير عبدالله بن المعافا، وأمره أن يقصد شهارة عاصمة الإمام، وجعله والياً لكل ما يفتحه، فانطلق ابن المعافا وأخرب كل المدن الإمامية في طريقه، ولم يقف أمامه أحد حتى وصل إلى شهارة التي تحصّن بها الإمام القاسم، وابتدأت معارك الحصار ..

ضيّق ابن المعافا الحصار على شهارة أكثر وأكثر حتى قل الطعام والقوت .. وفي أحد ليالي الحصار استطاع الإمام القاسم الفرار خلسة من المدينة ومعه عددٌ من أهله وولده وعددٌ من رجاله المخلصين، وترك قيادة المقاومة في شهارة لابنه محمد بن القاسم .. 

ولا أدري ماذا أسمي هذه الفعلة!

أعداء الإمامية نعتوها بالانتهازية والأنانية المقيتة ونوع من الجبن والخور .. بينما يراها الإماميون أنها نوع من الحكمة وحسن السياسة والتدبير، لأن الثورة كفكرة أهم من الشعب، والثورة مرتبطة بشخص الإمام القاسم، فلذلك وجبت حمايته .. 

وكلا القولين لهما شيءٌ من الوجاهة رغم أني أميل إلى الجماعة الأولى.

على كل حال، قاتل محمد ابن الإمام القاسم ومن معه ببسالة، وقاوموا ابن المعافا والعثمانيين حتى نفدت الأقوات والذخائر وكل شيء، ونفدت طاقات الجند فلا مجال للصمود، وقد استمر الحصار سنة و3 أشهر متواصلة، فاضطر إلى عرض التسليم على ابن المعافا على أن يعطيهم الأمان ؛ فتم الأمر وخرج محمد بن القاسم ومن معه من القادة والرجال إلى كوكبان، وتفرّق أهالي شهارة كلٌّ حيث يريد، ووفى لهم ابن المعافا بالأمان، وتسلم العثمانيون شهارة.

 

وفي سنة 1012هـ مات السلطان العثماني الخليفة محمد الثالث ابن مراد الثالث، وخلفه ابنه أحمد الأول على عرش السلطنة .. فوصل الأمر السلطاني من إسطنبول باستدعاء حسن باشا وعزله عن ولاية اليمن، وكان الباشا المذكور قد طالت أيامه، وعلا ذكره، وزادت أبّهته وسطوته، ويعد أقوى الباشوات العثمانيين الذين حكّموا اليمن، وشكل هو وسيفه المسلول الكيخيا سنان عقبة كؤود أمام الإماميين وأطماعهم .. ومع استعداد  حسن باشا للرحيل بمطلع العام 1013هـ، استخلف على ولاية اليمن الكيخيا سنان، واستعمل على اسمه لقب الباشوية بدلاً من الكيخيا العسكري، وكُتِب بذلك في سائر أرجاء الديار اليمنية، وشيّعه سنان باشا من صنعاء حتى المحويت، وودعه فيها وعاد إلى عاصمته.

وفي هذه السنة أراد والي اليمن الجديد سنان باشا العمل على الصلح مع الإمام القاسم ليكفّ الأخير أعمال الشغب وقطع الطرقات التي يقوم بها أتباعه، واتفق مع الأمير أحمد بن محمد ابن شمس الدين الزيدي الموالي لهم على السعي في الأمر، فكتب الأمير الزيدي إلى السيد الحسن ابن شرف الدين الكحلاني أحد رجال الإمام القاسم المقربين؛ يطلب منه عرض الأمر على الإمام.

وكان الزيود الإمامية يصلون إلى تكفير عسكر العثمانيين وولاتهم، وفي ذات الوقت يقرّون بالسلطان العثماني خليفة شرعياً على المسلمين، وهذا من عجيب أمرهم !!

ومن المعلوم في الإسلام أن من شروط إقامة الصلح مع الكافر؛ أن يكون صلحاً لأجلٍ معدود محدود، لا صلحاً دائماً، وبذلك كان أئمة الزيدية يرتكزون في تفاوضهم مع العثمانيين، وذكرني ذلك بكلام علمائنا السنة في أيامنا رضوان الله عليهم حين ردوا على من قال من السفهاء مبرراً ؛ أن التطبيع مع دولة الكيان المحتل لفلسطين هو مثل صلح الحديبية.

عموماً يذكر المؤرخ الزيدي يحيى بن الحسين ابن الإمام القاسم في كتابه (غاية الأماني في أخبار القطر اليماني) عن جده الإمام القاسم أنه رفض التفاوض مع العثمانيين على صلحٍ غير معلوم الأمد؛ يقول:

"حتى قال -الإمام القاسم في رسالته-: وأما ما ذكرتم من إقطاع البلاد؛ فإنا أحق بها، بل أن يتركوا لنا شهارة وبلادها، ووادعة، وبلاد خولان، وجبل رازح مع برط، ويعقد صلحاً سنين معروفة طولها وقصرها إليهم، فإن ذلك مشروع، فإن يرضوا، فقد رضينا ولا ننقض إن شاء الله تعالى عهداً، قال تعالى (وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً)، والأمير صفى الدين محمد يضمن لنا وعلينا .... إلى آخر جوابه عليه. ولما وصل هذا الجواب لم يوافق ما عندهم فلم يتم أمره."

 

 

 

 

 عبدالله بن علي الحماطي


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

26 سبتمبر – يوم من أيام الله

102 عام على مذبحة قافلة الحجاج اليمانية

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال