موجز حكاية العثمانيين في اليمن (8): عبدالله بن سعيد الطير شيخ وادعة يُحْيي ثورة القاسم من جديد

 

موجز حكاية العثمانيين في اليمن (8):

عبدالله بن سعيد الطير شيخ وادعة يُحْيي ثورة القاسم من جديد

 

إن تبدل الولاء وتغيره المستمر سمة جلية عند زعماء القبائل الذين لم يتمدنوا أو يتعلموا، فيغلب على أمثالهم ضعف الوازع الديني وسيطرة بوصلة المصلحة على القلب، فأينما توجهت توجهوا، وقليلٌ منهم من يشذّ عن هذه القاعدة ويحكّم مبادئه ودينه، لا مصلحته وشهوته .. 

وهو أيضاً من الأمور الجلية الظاهرة في الصراع الإمامي العثماني في اليمن، حيث كان أغلب الأمراء الزيود ومشائخ القبائل مذبذبي الولاء بين هذا وذاك، الأمر الذي استمر بين الساسة في اليمن حتى بعد زوال الدولة العثمانية من الوجود، بل إلى نهاية عهد الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح الذي كان رأساً في هذه الألاعيب القذرة.

 


لم يهنأ الإمام القاسم بن محمد منذ قيام ثورته بانتصارات متتالية تقر بها عينه، أو بمواقع حصينة له ولأنصاره مثلاً وتكون عصية على العثمانيين، أو بكتائب قوية تكون رمحه الذي يقذفه في صدور من أراد من أعدائه، فما هي إلا خسائر متلاحقة وأنفس تُزهق ودماء تراق وأشلاء متطايرة، وأما انتصاراته فهي قطرات أمام بحر دماء أتباعه، وهذه الانتصارات القليلة هي الشريان الذي أبقى ثورته على قيد الحياة كل هذه السنوات، لكن القاسم قد علم بفطنته أن الثورة من المستحيل أن تنتصر بهذا الزخم المتذبذب، وأن كثيراً من مشائخ القبائل لم يكن ولاؤهم له ولاءً حقيقياً، وإنما من مبدأ العدو العثماني المشترك فقط (عدو عدوي صديقي)، فإذا ذهب العداء ذهبوا عنه .. فقرر القاسم أن يترك البلاد متخفياً إلى البصرة إلى أن يستقيم أمر دعوته ويحشد ما يكفي من الأتباع يستأنف بهم ثورته .. 

ثم يشاء الله سبحانه أن تصل إلى القاسم رسالة قلبت الموازين وأحيت الأمل في نفسه من جديد وجعلته يُؤجل فكرة الهروب إلى العراق لأجل غير مسمى!.

كانت الرسالة من الأمير عبدالرحيم بن عبدالرحمن الزيدي يعلن فيها للإمام ولاءه له، ويعتذر عمَا مضى ..

نَعم الأمير عبدالرحيم نفسه..!

العدو القديم والغادر الدموي..!

وسبب هذا الانقلاب الكبير أن أحد مشايخ القبائل واسمه ناصر البهيلة راسل الأمير عبدالرحيم وأخبره أن سنان باشا في صدره عليه شيء، وأنه يضمر له السوء وينصحه بالحذر!

فقرر الأمير عبدالرحيم وكعادته في الغدر أن ينقلب على العثمانيين، وراسل الإمام وأعلمه بولائه له، لكن الإمام اشترط عليه شروطاً وحلّفه الأيمان على الصدق والوفاء؛ ففعل، فقبل منه بيعته، ومن الجدير بالذكر أن الوشاية التي قام بها ناصر البهيلة لم تكن صحيحة، ولذلك كان غضب سنان باشا عند سماعه بخيانة الأمير عبدالرحيم شديداً، فهو يرى نفسه مظلوماً مغدوراً به، وقال في ذلك اليوم متوعداً:

"ما غيّر عبدالرحيم إلا على نفسه، ولا أزال إلا نعمته، وسوف أملؤها عليه خيلاً ورجلاً، وأوسع أصحابه أسراً وقتلاً"

وفي سنة 1014هـ كاتب أهالي وادعة الإمام القاسم يطلبون منه القدوم إليهم ويعدونه بالنصرة، فتحرك إليهم الإمام حتى شارف دخول بلادهم، فوردته الأنباء بأن القوم متلكئون في الدخول في طاعته، وقد انقسموا لفريقين، أولهم من يريد الإمام ويحبه لكنه امتنع من البيعة خشية بطش العثمانيين، وثانيهم من يحب الإمام وقد تشجع وبايعه رغم خوفه العثمانيين، وسبب هذا الخوف المفاجئ أن العثمانيون قد جاءتهم أخبار استقدام وادعة للإمام، فأرسلوا من فورهم جيشاً قوياً يدهم بلاد وادعة فور وصول الإمام إليهم ..

فراسل الإمام بني جبر لينصروه على العثمانيين القادمين فأجابوه، فأرسل لهم الإمام ابنه الحسن بن القاسم وهو ابن 15 عاماً في أول غزاة يغزوها، ومعه من رجال أبيه السيد علي بن صلاح العثالي، فتحرك الحسن ومن معه من بني جبر إلى منطقة الذئبين، وتلقاهم الأمير أحمد الأخزم بجيش العثمانيين، فاشتبكوا في الذئبين بمعركة انتهت بهزيمة بني جبر وفرار الحسن إلى أبيه في وادعة ونهب الأخزم وجيشه الذئبين ..

وعلم سنان باشا أن الإمام باقٍ في وادعة، فقصده الأمير عبدالله بن المعافا من خمِر بأمر سنان .. وهنا اتحدت قبائل وادعة وخرجوا لحرب ابن المعافا والعثمانيين دفاعاً عن الإمام بقيادة عبدالله بن سعيد الطير، فانتصر ابن سعيد الطير انتصاراً مدوياً، (وهزمه أقبح هزيمة، وقتل من أصحابه عدة واجتُزّت رؤوسهم، وانقطع طمع الأروام عن وادعة من هذا التاريخ).

وكان الأمير عبدالرحيم قد تقاعس عن نصرة الإمام حين جد الجد وقد زحف العثمانيون زحفهم الأول إلى وادعة، وكان من المفترض عليه أن يفتح جبهة على العثمانيين من جهته ليشتت تركيز سنان باشا ويفرق جيوشه في البلاد، لكنه تلكأ وآثر السلامة، وحين وردته أخبار قيام رجال وادعة لنصرة الإمام مع عبدالله بن سعيد الطير؛ اضطر إلى القيام بدوره ليكون في ركب الإمام وقد تنبأ بانتصاره، فبعث أخاه أحمد بن عبدالرحمن إلى بلاد قراضة و لاعة فاستفتحها باسم الإمام، ودعا له في الخطبة، وحرك عدداً من السرايا حولها مُحكِماً أمره في المنطقة، ثم تقدم أحمد إلى كوكبان فاكتسح معظمها وفرّ أميرها محمد بن أحمد إلى الطويلة وجهز منها عبدٌ من عبيده يدعى النقيب سنبل بعسكر من فلول كوكبان، وانضم إليه الأمير عبدالله بن المطهر بجيشه وتحركوا جميعاً لحرب الأمير عبدالرحيم، فكسرهم عبدالرحيم وانتهب جيشهم وأسر منهم جمعاً ملأ بهم سجونه.

وبعث الأمير عبدالرحيم عسكراً مع أخيه الآخر مطهر بن عبدالرحمن إلى ظليمة والأهنوم وما حولها فسيطر عليها، وفرض حصاراً على شهارة حتى ضاق الخناق بأهلها يقودهم إبراهيم بن عبدالله ابن المعافا، فكاتب أهالي شهارة القاسم يطلبون منه أن يسلموا له المدينة لكرههم لعبدالرحيم وإخوته، فأجابهم الإمام وتسلم المدينة بنفسه وأطلق ابن المعافا ومن معه بعد أن صادر سلاحهم وعتادهم، وولى على المدينة من يحفظها له وعاد إلى مركزه في وادعة، ثم انتقل منها إلى ظفار للمشاركة في القتال ضد جيشٍ عثماني حاصره الإماميون في تلك المناطق بقيادة القاضي هادي بن عبدالله ابن أبي الرجال، وكان الشيخ عبدالله بن سعيد الطير يقاتل العثمانيين بأهل وادعة قتال دامياً في بلاد الظاهر انتهى بانتصاره عليهم.





توالت أخبار الجبهات التي أشعلها الإمام القاسم قوّاده الجدد؛ الأمير عبدالرحيم وإخوته وعبدالله بن سعيد الطير شيخ وادعة؛ إلى الوالي سنان باشا، ثم تبعتها مباشرة أنباء الهزائم المتتالية إليه من كل مكان، فأفرغ غضبه وحنقه على المساجين الإماميين لديه، وضيق عليهم وزاد تعذيبهم، وكان فيهم نساءٌ وصبيان، والله المستعان.





عبدالله بن علي الحماطي

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

26 سبتمبر – يوم من أيام الله

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال

القاتل الوسيم .. ورسالة للآباء !