موجز حكاية العثمانيين في اليمن (9): مؤامرة الأمير صلاح ضد العثمانيين في حصن الطويلة
موجز حكاية العثمانيين في اليمن (9):
مؤامرة الأمير صلاح ضد العثمانيين في حصن الطويلة
ذكرنا فيما سبق فرار أمير كوكبان
محمد بن أحمد الزيدي إلى الطويلة، وأنه أرسل عبده النقيب سنبل بمن بقي من جند
كوكبان ومعهم جيش الأمير عبدالله بن المطهر؛ إلى لقاء الأمير عبدالرحيم، فاستطاع
الأخير أن يكسرهم ويأسر منهم الكثير ..
وبعد هذه المعركة لم تطل أيام الأمير محمد بن أحمد فوافته المنية في تلك
السنة، فاستخلف الوالي سنان باشا على كوكبان الأمير إسماعيل بن أحمد وهو أخو محمد
المتوفى، لكن إسماعيل كان عليلاً يعاني مرضاً مزمناً وهو الحصار (احتباس الفضلات
الجسم وصعوبة إخراجها)، فلذلك كان ضعيفاً لا يقوى على الحركة وركوب الخيل بسهولة،
ملازماً لفراشه معظم الوقت، لكن سنان باشا ولّاه رغم ذلك لثقته التامة فيه، ويقينه
بأنه لن يغدر به، وهذا ما يحتاجه الباشا في تلك النواحي المشتعلة بالحروب.
ولم يترك سنان باشا واليه الجديد الأمير إسماعيل بلا مساعدة، بل أمدّه
ونصره بالعساكر والعتاد، ثم أمره بأن يولّي على الطويلة من يثق به ليعينه على الولاية، وأشار
عليه بالأمير صلاح بن المطهر بن صلاح بن شمس الدين الزيدي، فاستجاب الأمير إسماعيل
وتولى صلاح الطويلة.
ولم يكن الأمير صلاح بالرجل السهل الخامل القانع، بل كان داهيةً طامعاً طامحاً،
وقد رأى من أميره إسماعيل ضعفه ومرضه، فصار يتجاهله ويستبد بالأمر دونه، ويتصرف دون الرجوع إليه، وقد أحس الأمير إسماعيل باستبداد صلاح وتجاهله إياه، فرفع
الأمر إلى سنان باشا يستشيره، ولم يكن الباشا بالعجول الأرعن، فآثر الاطلاع على
حقيقة الأمر عن قرب، فولّى الأمير عبدالله بن المطهر ابن شرف الدين على عسكر
السلطنة في الطويلة وجعله سرداراً (سردار = رتبة عسكرية عثمانية)، وأوصاه بمراقبة
الأمير صلاح وتقصّي أخباره.
وبالفعل اكتشف الأمير عبدالله مؤامرات يحيكها الأمير صلاح ضد
العثمانيين، ومراسلات كثيرة بينه وبين زعماء القبائل في المنطقة يحضّهم على الوقوف
معه، وكل الزعماء قد أجابوه بالفعل ووعدوه بالنصرة، فقرر الأمير
عبدالله أن يجابه الأمير صلاح بالأمر، فدخل عليه مجلسه وأخبره بكل شيء رآه وكشفه عنه وعن ومؤامراته، وهدده وعنّفه، لكن الأمير صلاح أنكر واستبشع المقال وحلف
الأيمان أن كل ذلك لم يحدث، وانتهى المجلس وانزوى الأمير صلاح وقد ازداد إصراراً
على المضي قدماً في خطته عاقداً عزمه على التعجيل بها.
كانت مؤامرات الأمير صلاح تتسرب شائعاتها بين الناس لأنه أحاط نفسه
بمن لا يجب الوثوق بهم، فلا يحفظون له سراً ولا يكتمون أمراً، وازدادت الوحشة في نفس
الأمير صلاح وطمِع في الانقضاض على الأمير عبدالله والتخلص منه، وانقسم الناس بين
والي المنطقة وقائد العسكر، ووصلت الأنباء إلى سنان باشا فأمد الأمير عبدالله
بمزيدٍ من العساكر والعتاد تحسباً لأي طارئ.
فكاتب الأمير صلاح عدداً من قادات العسكر العثماني في كوكبان واستمالهم،
وخصوصاً العرب منهم، وراسل زعماء قبائل جبل تيس ورجال الأمير عبدالرحيم فيه
وراسل ابن الحماطي شيخ الحيمة (وهو غير الشيخ يوسف الحماطي الذي قتله سنان باشا)
يستقدمهم لنصرته، وأجاب الجميع بأنهم ظهره وسنده، وقرر الأمير صلاح أن تكون الوثبة
في 3 رمضان من هذه السنة (1015هـ) لكن الأمير عبدالله قد كشف خطتهم فاستعدّ للحرب
واجتمع بعسكره والكل على تعبئة، ثم أمر رجاله أن من يمسك منهم بعسكريٍ من كوكبان
يأتوه به، فأمسكوا بأكثرهم وجيء بهم إلى الأمير عبدالله، فواجههم بالأمر فأنكر الجميع
فأخذ عليهم الأيمان والعهود على الوفاء للأمير إسماعيل أمير المنطقة وأن لا يعاونوا
عليه أحداً؛ ففعلوا.
انفض عسكر كوكبان الذي كان يعوّل عليهم الأمير صلاح الكثير، ولم يصل
رجال القبائل إلى الطويلة بعد، بل وأتته رسالة من الأمير عبدالله يُخبره فيها بأنه
قبض على أحد أصدقاء الأمير صلاح ومستشاره المقرب، ويطلب منه الاستسلام وأنه سائرٌ
إليه .. فأُسقِط في يد الأمير صلاح ولم يجد له مخرجاً من هذه الورطة.
سار الأمير عبدالله بفرقةٍ من جيشه إلى منزل الأمير صلاح ودخل داره فقبض
عليه العساكر، فعنّفه الأمير عبدالله ووبّخه وقرّعه، ثم كتب إلى الوالي سنان باشا
يبشّره بالقبض على الأمير صلاح.
عاد الأمير عبدالله إلى مركزه ومعه الأمير صلاح، وترك بالقرب من
دار الأمير صلاح 60 رجلاً من العسكر العثماني الأشداء يتربّصون بمن يقترب من الدار
.. ثم إن الأمير عبدالله نوى ترك حصن الطويلة من فوره والمسير إلى كوكبان ليكون فيها
إن تحرّك أنصار الأمير صلاح لنجدته فيقمع فتنتهم في مهدها قبل أن يتكاثروا، وأخبر الأمير
صلاح أنه سيأخذه معه إلى كوكبان، فطلب الأمير صلاح من الأمير عبدالله أن يعود إلى منزله ليصلح بعض أموره وأمور أهله قبل المسير، فأذن له وأرسله برفقة الحراس إلى منزله.
وفور أن دخل الأمير صلاح داره وأغلق على نفسه فيها سمع جلبةً وأصوات أعيرةٍ نارية حول الحصن، فأيقن أن رجال الحماطي وقبائل جبل تيس وعسكر الأمير عبدالرحيم وأهل
كوكبان قد وصلوا وأغاروا، فقام من فوره وأشرف من سطح بيته أو من أحد نوافذه المطلة على رجال القبائل تحت الحصن، فصاح بأعلى صوته واستغاث بهم لينجدوه ويساعدوه، فما أن
سمعوا صوته حتى هيّضتهم النخوة والحمية فخرجوا جميعاً من خلف متاريسهم ومخابئهم في
سفح الجبل، وامتطوا خيولهم وهجموا على الحصن بكل قوة، وابتدأت بنادقهم بالرمي
فقتلوا عدداً من الحامية العثمانية، وكان فيمن قتل في تلك الغارة الأمير زين العابدين بن
محمد بن الهادي الزيدي، قُتل بين يدي الأمير عبدالله، أصابته رصاصة من أسفل الحصن
فهلك في حينه.
وكان الحراس خارج الدار عندما أشرف الأمير صلاح من منزله على رجال
القبائل أسفل الحصن حاولوا أن يكسروا الباب ويدخلوا، واستعانوا بالـ60 عسكري الذين تركهم الأمير عبدالله حول المنزل، فخلعوا الباب واقتحموا المنزل ففزع الأمير
صلاح إلى سيفه وضرب رجلاً منهم في وجهه يُدعى عثمان آغا، فأشهروا في وجهه البنادق
ورموه بها لكنه نجى منها بأعجوبة بعد أن ألقى بنفسه من نافذة داره من الجهة
القريبة من الأرض نسبياً؛ فنجا ولم يمت، لكنه أصيب إصابات بالغة من الارتطام ولم
يستطع الفرار، فأمسك به العساكر وأمر الأمير عبدالله بضرب عنقه وحُمل رأسه ليراه
الناس.
وكان سنان باشا قد وردته الأخبار بأن الإماميون ورجال القبائل يحاصرون
الأمير عبدالله في حصن الطويلة، فبعث بجيشٍ مع الأمير ذي الفقار ليكسر الحصار، فوصل
ذو الفقار بعد إعدام الأمير صلاح (والقيامة قد قامت، والقبائل في الحدود المقاربة للطويلة كالجراد الناشرة،
وجرى بين الأمير ذي الفقار وأهل كوكبان ما بين الطويلة والمحل الذي هو فيه قتال آل
الأمر فيه إلى انهزام عسكر كوكبان وتفرقوا) ولم يقتل من العثمانيين في جيش ذي
الفقار إلا 30 رجلاً فقط.
ثم تقدم الأمير ذو
الفقار للقاء جيش ابن الحماطي وجيش الأمير عبدالرحيم، فهزمهم الأمير ذو الفقار، وفر
الكثيرون، ولام الأمير عبدالرحيم قائد جيشه على التأخير في نجدة الأمير صلاح، فصادر
أمواله ثم ضرب عنقه!.
وبذلك انتهت فتنة
الأمير صلاح وانتهى ذلك العام وابتدأ الذي يليه برسالة من إسطنبول فيها عزل سنان
باشا عن ولاية اليمن وتولية جعفر باشا بدلاً عنه
عبدالله
بن علي الحماطي
تعليقات
إرسال تعليق