أفول شمس المذهب الزيدي ومعضلة آل البيت مع الحُكم

 

خاطرة:

أفول شمس المذهب الزيدي ومعضلة آل البيت مع الحُكم

 

لطالما كان المذهب الزيدي هو السمة الأساسية لأهالي شمال اليمن طوال 1200 سنة، منذ مجيء عمرو بن لُحي اليمن إلى صعدة، وأعني به يحيى بن الحسين الرسي، الذي لقب نفسه بالهادي إلى الحق، وهو إلى الضلال أقرب، فأتى بالمذهب الزيدي ونشره في ربوع البلاد اليمانية النائية عن ساحة الصراع السياسي، والمعزولة عن بقية العالم، فوجد فيها مرتعاً له ولأقربائه، فاستغلّوا نسبهم الشريف بأن مكّنوا لأنفسهم في البلاد، واتخذوه سلّماً لتحقيق أطماعهم السياسية والحصول على مكانة اجتماعية.

ولم تكن المصيبة هي جلبه للمذهب الزيدي مجرداً، إذن لهان الخطب؛ وإنما جلبه إياه ممزوجاً بالعقيدة الاعتزالية، فصارت اليمن بسببه -عليه من الله ما يستحق- قلعة من قلاع الزيدية والمعتزلة في العالم لألف سنة، والنصوص في كفر المعتزلة تواترت عن أئمة السلف رضوان الله عليهم منذ القرن الأول، وهذا هو الخطب الجلل وإنا لله وإنا إليه راجعون. 

لذلك يخلط الكثيرون بين قول السلف أن (الزيدية أقرب الفرق الشيعية لأهل السنة) مع زيدية اليمن التي أتى بها يحيى الرسي، وهذا بلا شك خطأ فاحش، فزيدية اليمن يرجع أصلها إلى فرقة الجارودية نسبة إلى أبي الجارود زياد بن المنذر العبدي الذي لقبه الإمام أبو عبدالله محمد الباقر بـ "سرحوب" ؛ يعني الشيطان الأعمى، ووصفه كل علماء السلف بالكذب والخبث والدناءة، وفرقة الجارودية هذه هي أحد فرق الزيدية، والجارودية نفسها انقسمت إلى طوائف عدة؛ منهم من يسب الشيخين كالحوثيين في زماننا -سود الله وجوههم-، ومنهم من لا يسبهم كأغلب اليمنيين في الماضي، فكلمة علماء السلف إما أنهم قصدوا بها فرقة من فرق الزيدية الكثيرة ولم يعنوهم جميعاً بالتأكيد، وإما أنهم قصدوا بها الفرق الزيدية التي لا تسب أبا بكر وعمر؛ فهم أقرب الشيعة إلينا في باب الصحابة فقط لا في كل الأبواب.




إن من المقطوع به عند كل المسلمين أن أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم هم أشرفنا نسباً وأعلانا مكانةً وأرفعنا قدراً، وأن لهم من الحق في التوقير والاحترام ما لا يكون لغيرهم، وحبنا لهم من حبنا لنبينا صلى الله عليه وسلم، فنحن نتقرب إلى الله سبحانه بحبنا لهم وتقديمهم على أنفسنا وأهلينا، ونناصب العداء من ناصبهم العداء .. لكن من الواجب القول بأن هذا الشرف مقرونٌ بحسن الاعتقاد والقول والعمل، وبدونه يكون هذا الشريف أحط قدراً من أحقر مسلم متمسكٌ بالسنة، محسنٌ في قوله وعمله، وقد قَامَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَل قوله (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) فقَالَ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) رواه البخاري ومسلم. فلم ينفع فاطمة كونها ابنة النبي صلى الله عليه إن لم تعمل لنفسها ما ينجيها يوم الحساب، فالنسب فضلٌ وزيادة فرعية، لا أصلٌ وأساسٌ في الحكم على المعين، ويشهد بذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من بطّأ به عمله، لم يُسرع به نسبه) رواه مسلم.

لكن العالم الإسلامي في القرون السابقة وبسبب الجهل والبداوة والفقر الذي عاشته معظم البلاد الإسلامية صُبِغ مسلموه بالعاطفة العمياء التي تولّدت من التصوف الذي ولّده الجهل وأئمة الضلال، وتم استغلال هذه العاطفة المفرطة والمجردة من العقل من قبل كل من طمعت نفسه للعرش من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم، فكل من أتى لمنطقة نائية أو بلدٍ بعيدٍ دعا لنفسه بالإمارة وتبعه الناس وحكّموه عليهم، تبرّكاً بنسبه، وحباً بالنبي صلى الله عليه وسلم، وجهلاً بالسياسة، وضعفاً بالعقل، و حَيداً عن الشريعة.

فكم أعداد الأسر الحاكمة من آل البيت..؟ العشرات إن لم تكن المئات..!

الأدارسة في شمال إفريقيا، والأدارسة في صبيا وجيزان، والعلويون في المغرب، والسعديون في المغرب، والسنوسيون في ليبيا، والفاطميون في مصر، وآل الرسي في شمال اليمن .. هذه وغيرها الكثير في الصومال والسودان والحبشة ودويلات الأندلس وقلب إفريقيا وفارس والهند وبلاد المالايو وبلاد آسيا الوسطى .. فما أن يدخل السيد قريةً من القرى ويُفصح عن نسبه حتى يؤمّره الناس عليهم، ولا يخفى ما في هذا الأمر من شق عصا الخلافة أو السلطة المحلية وإشعال الفتن في البلاد، الأمر الذي تفطّن له الخلفاء العباسيون الأوائل من أن وصول الطالبيين للحكم في أي بلد أمرٌ مُمهّد وفي غاية اليسر، لذلك كان عليهم بذلك تضييقٌ شديد وقمعٌ عظيم ومظالم كبيرة والتي بالطبع لا نقبلها على أهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم.

وإن لم يستطع السيد الحصول على الحكم في البلاد التي دخلها فلا عقبة ولا مانع أمامه من حصوله على مكانة اجتماعية وسلطة روحية يملك بها العامة ملكاً غير مادي، وتتجلى هذه الصورة في أيامنا بسادة حضرموت جنوب الجزيرة العربية، حيث صاروا مدار حياة الناس ومكان التجائهم ومصدر تشريعهم ومقنّنو عاداتهم، وليتهم كانوا على ما يحبه الله ويرضاه قولاً وعملاً واعتقاداً، بل على العكس، كانوا على ضلال كبير من قبور وشركيات وخرافات وانحراف يزداد مع مرور السنين، فأصبحت هذه الضلالات؛ دعامةً لمكانتهم الاجتماعية فيتكئون عليها، فهم قادة الطقوس الشركية لزيارة قبر النبي هود المزعوم مثلاً، وهم ملجأ المنكوبين والمعسورين والمهمومين من عوام المسلمين بتلك البلاد، فيلهج اللسان بذكرهم طالباً المدد منهم فيما لا يقدر عليه إلا الله، وأذكر أنني في أحد المرات قد صليت في مسجد من مساجدهم في مدينة سيئون؛ فأخذ الإمام ورقتين من أحد المصلين فيها اسم امرأتين قد توفتا، فقرأها الإمام ثم قال بعد الصلاة (توفيت اليوم "الشريفة" فلانة الفلانية الطاهرة العفيفة نسأل الله أن يرحمها ويغفر لها ويغسلها بالماء والثلج والبرد وينقها من الذنوب والخطايا كما ينقّى الثوب الأبيض من الدنس ... إلخ) فأسهب الإمام وأطنب في الدعاء للشريفة الميتة ونحن نؤمّن من بعده ..

ثم أخذ الورقة الثانية وقرأها ثم قال: (توفيت اليوم فلانة الفلانية نسأل الله أن يتغمدها برحمته) .. فقط ثم سكت!

هنا أخذتني صعقة وشُدهت!

أخذت أتلفّت إلى المصلين الذي بدؤوا بالانصراف من المسجد، ومكثت أكلّم نفسي؛ أما فيهم من يستنكر هذا التمييز وهذه الطبقية المقيتة حتى في الدعاء؟!

أهذا أمرٌ يرضاه النبي صلى الله عليه وسلم؟

أكان الصحابة في جاهليتهم سيؤمنون بالإسلام لو أن هذا الأمر كان من تشريعاته لا من خرافات صوفية حضرموت (تعالى الإسلام عن ضلالهم وتنزه)؟

إن كان هذا هو الإسلام فقد كذب ربعي بن عامر رضي الله عنه -حاشاه- حين قال لرستم قائد الفرس قبل معركة القادسية: (أتينا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد)، وإن قال لي أحدهم أنهم لم يعبدوهم! ذكّرته بحديث النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه: (أليس يحرِّمون ما أحلَّ الله فتحرِّمونه، ويحلُّون ما حرَّم الله فتحلُّونه؟ قال: قلت: بلى! قال: فتلك عبادتهم!)

عموماً صار لهم بهذه الأمور وغيرها هالة قدسية تحفّهم، ومركزية التصقت بهم عند أهالي تلك البلاد فصارت جزءاً من ثقافة أهل البلد، وإني والله لَمُشفقٌ على شباب أهل البيت أنفسهم في تلك البلاد وقد أضلتهم عمائم السوء ولحى الضلالة، فصار الواحد منهم لا يجاهد للوصول إلى الحق فحسب، بل يجاهد نفسه فوق ذلك ليخرج منها حب الرياسة وقد تعودت تلك المكانة الرفيعة في ثقافة ذلك المجتمع، وذلك الزهو في تصدرهم وقصدهم .. لقد أصبحت عليهم شبهةً وشهوةً معاً .. فتأملوها.

وإن كنت ترى الأمر سيئاً في أيامنا فهو لا يقارن أبداً بالسوء الذي كانت عليه عموم البلاد الإسلامية في القرون السابقة، حيث كان الوضع أحرج والجرح أعمق والخرق أوسع، لكن الجهود التي بذلها علماء أهل السنة في تقويم هذه العاطفة عند عوام المسلمين وتعليمهم، وتنبيههم على مواطن الشرك التي ضمتها عاداتهم؛ انطلاقاً بشيخ الإسلام ابن تيمية ومن بعده ابن القيم وابن كثير وابن عبدالهادي وابن أبي العز الحنفي ثم وصولاً لأئمة الدعوة النجدية المباركة وعلى رأسها الإمام المجدد محمد بن عبدالوهاب ومن سار على هذا النهج حتى يوم الناس هذا = قد آتت أُكُلها، ولا ينكر فضلهم في المساهمة برفع الجهل عن العالم الإسلامي عموماً والجزيرة العربية خصوصاً إلا جاحد مكابر.

والسبب الثاني الذي ساهم في تصحيح عقائد المسلمين هو المسار الحتمي للتاريخ، واضمحلال العقلية الخرافية وازدراؤها، وبزوغ شمس العقل في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، ثم التطور التقني الذي سهّل نشر العلوم إلى أصقاع العالم الإسلامي، ثم العولمة التي نعيشها وتأثر الشعوب الرازحة تحت طغيان طواغيت التصوف وأقطاب الشركيات والخرافة بالشعوب الأخرى الحرة مما شكل دافعاً للثورة على الواقع المر.

وفي شمال اليمن خصوصاً أضيف إلى هذه الأسباب؛ سياسة الرئيس المخلوع علي عبدالله صالح الذي مكّن لأهل السنة، وسهّل لهم فتح المدارس الأثرية، فاقتحموا بها البؤر الزيدية المحضة، ولم يكن هذا يرجع إلى إيمان الرئيس المخلوع وتقواه، بل كان نوعاً من التوازن الذي أراد خلقه في الساحة السياسية اليمنية خدمة لمصالحه، وهذا النوع من الألاعيب القذرة أصبح معتاداً ومألوفاً من الراقص على رؤوس الأفاعي.

 

 

عبدالله بن علي الحماطي


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

26 سبتمبر – يوم من أيام الله

102 عام على مذبحة قافلة الحجاج اليمانية

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال