100 عام على وفاة الرجل المريض


100 عام على وفاة الرجل المريض

 

    مئة عام .. يالها من سنين طويلة ذقنا فيها من البأساء والضراء ما أنسانا عزنا القديم ومجدنا التليد..!

لم يكن تاريخ الأمس تاريخاً عادياً، ففيه أكملت أمتنا 100 عام على وفاة ذلك الرجل الذي صارع مرضه قرنين دون علاج، إلا المسكنّات لتأخير نهايته المحتومة، من بعد قوته وعزه .. ولكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ.

ذهبت الخلافة العثمانية بحسناتها المشهودة وسيئاتها الكثيرة المهولة، لتتركنا وبلداننا وحدنا كأيتام لا حامي لهم ولا معينٍ، فتمزَّقنا كل ممزقٍ، وراح كل بلدٍ منا يتجرّع المرّ ألواناً؛ محاولاً الصمود في وجه طوفان الحداثة القادم من الغرب بدباباته وعلومه، فتغيرت بذلك أحوالنا وتهجّنت هُوياتنا، فصرنا نُشبِه بعضنا في العَرَض دون الجوهر.


السلطان عبدالمجيد الثاني
آخر خليفة للمسلمين عام 1924م

كم من دماءٍ لنا أريقت وأعراضٍ هُتكت وبلادٍ اكتُسِحت وأخلاقٍ مُسخت في مئة عام فقط، وإني لأظن أن الأمة في مطلع القرن العشرين كانت أسوأ حالاً منها إبان غزو المغول لبلادنا وحرق بغداد عاصمة الخلافة ..

لقد وصلنا إلى حضيضٍ لم نصله من قبل، وإن بيننا وبين الغربي القذر في مطلع ذلك القرن المشؤوم كما بين المشرق والمغرب، بل إن دولة الإسلام الفتية في عهد الخلفاء الراشدين كانت أقرب لإعدائها العتيقين؛ الإمبراطورية الرومانية والإمبراطورية الفارسية؛ منّا بعدوّنا الغربي في مطلع القرن العشرين.

وإني رغم تحسّفي على ضياع "الخلافة" في حاضرنا؛ إلا أنني لا أستطيع غض الطرف عن كون أن معاناتنا إنما هي نتيجة لسياسة الدولة العثمانية في النصف الثاني من تاريخها مع البلدان العربية، وحصاداً لجرائمها فينا، ونهاية محتومةً لأفعالها بنا، كالإهمال لبعضها وأعني معظم الجزيرة العربية والسودان والعراق وليبيا والجزائر، والسيف والحديد والنار لبعضها كاليمن والشام، وحَلْب مقدّرات مصر والشام واتكال خزينة الدولة بالكامل عليهما دون مكافئة لهذه الأقطار على ما تقدّمه للسلطنة، بل وإهمال العساكر المحلية في الولايات العربية لمخاوفهم الأمنية بأن يثوروا طلباً للاستقلال، ولو أحسنوا إليهم لكانت قلوبهم وسيوفهم معهم دائماً، لكنهم أساؤوا إليهم فأوجسوا منهم خيفة، فلا دام ملكهم ولا حمد الناس أيامهم .. فتركوا البلدان العربية كلها فقيرة الكوادر معدمة النخب، وأيضاً لا ننسى فرض التتريك على الشعوب، واحتكار الوظائف الحكومية للأتراك أو لذي اللسان التركي، هذا جنباً إلى جنب مع نشر الخرافة بين الناس من خلال البدع والشركيات والأضرحة والتكايا، فصار العربي خاملاً أبلهاً إن تديّن، أو فاسقاً زنديقاً إن سافر وتعلم، والأمة بين ابنيها هذا وذاك متخبطةً..!

فلما أتى الزحف الغربي بعد زوال عرش آل عثمان؛ وجدوا دولاً ممزقة خاوية، وأجساداً هزيلة، ومساكن بالية، وشعوباً متخلفة لا زالت تعيش قبل ذلك التاريخ بألف سنة .. فسال لعابهم وسنّنوا لنا مخالبهم، وتناولونا من كل حدبٍ وصوبٍ حتى ليظن الظان حينئذٍ أن هذا الخرق العظيم لن يرقعه إلا مجيء المهدي!.

كان عرش الخلافة الأحمر باب الأمان الذي وإن كان مهترئاً إلا أن وجوده خير من عدمه، وصده لبعض الأعداء وعجزه عن البعض خير من استباحة بسائطنا لكل من هبّ ودبّ، ووجوده الظالم المؤلم الكامن على بلداننا خيرٌ من جثو الغربي القذر على صدورنا وابتلاع ثرواتنا وأراضينا وهتك أعراضنا وسفك دمائنا وتسفيه ديننا ..

يا لأمتنا المسكينة، إن صبرت على ماهي فيه نزفت وأنّت، وإن ثارت وتحررت أصيبت بمن هو أدهى وأشرّ وأخبث..!

عتبت على عمرو فلما فقدته

وجرّبت أقوامًا بكيت على عمرو


وإن هذه المئة عام البائسة جعلتنا نتوق إلى أيام ظلم العثمانيين، ونتمنى وجودهم، فحنانيك بعض الشر أهون من بعض، وحق لأمير الشعراء أحمد شوقي أن يبكي سقوط الخلافة في قصيدته التي تقطر دمعاً:

عادَت أَغاني العُرسِ رَجع نُواحِ

وَنُعيتِ بَينَ مَعالِمِ الأَفراحِ

كُفِّنتِ في لَيلِ الزَفافِ بِثَوبِهِ

وَدُفِنتِ عِندَ تَبَلُّجِ الإِصباحِ

شُيِّعتِ مِن هَلَعٍ بِعَبرَةِ ضاحِكٍ

في كُلِّ ناحِيَةٍ وَسَكرَةِ صاحِ

ضَجَّت عَلَيكِ مَآذِنٌ وَمَنابِرٌ

وَبَكَت عَلَيكَ مَمالِكٌ وَنَواحِ

الهِندُ والِهَةٌ وَمِصرُ حَزينَةٌ

تَبكي عَلَيكِ بِمَدمَعٍ سَحّاحِ

وَالشامُ تَسأَلُ وَالعِراقُ وَفارِسٌ

أَمَحا مِنَ الأَرضِ الخِلافَةَ ماحِ..؟؟!!

 

ثم يستطرد شوقي في قصيدته حتى يختمها بنصيحةٍ للأمة وتهديداً لها بأنها ستُقبِل على أيام بؤسٍ وصبر، يقول:  

لا تَبذُلوا بُرَدَ النَبِيِّ لِعاجِزٍ

عُزُلٍ يُدافِعُ دونَهُ بِالراحِ

بِالأَمسِ أَوهى المُسلِمينَ جِراحَةً

وَاليَومَ مَدَّ لَهُم يَدَ الجَرّاحِ

فَلتَسمَعُنَّ بِكُلِّ أَرضٍ داعِياً

يَدعو إِلى الكَذّابِ أَو لِسَجاحِ

وَلتَشهَدُنَّ بِكُلِّ أَرضٍ فِتنَةً

فيها يُباعُ الدينُ بَيعَ سَماحِ

يُفتى عَلى ذَهَبِ المُعِزِّ وَسَيفِهِ

وَهَوى النُفوسِ وَحِقدِها المِلحاحِ

 

إلا أني مع كل ما جرى أرى تباشير صباح اليقظة تلوح في الأفق جلية متلألئة، وإن من ينظر لحال شبابنا اليوم يرى الوعي فيهم قد ازداد عما كان عليه، وأن احتكار القوة عند الغرب قد قلّت سطوته، وأن سلاح الإعلام وإن كان في أساسه لهم إلا أن المسلمين صاروا فيه رقماً صعباً، وأن القوات المسلحة الإسلامية عموماً قد قلّصت الفوارق بخطى متسارعة بينها وبين الآلة الغربية، وما ذلك إلا بفضل الله أولاً ثم بفضل السواعد الإسلامية القوية والعقول الفذة المخلصة، وما طوفان الأقصى منكم ببعيد.

أسأل الله العظيم أن يعز الأمة، ويرفع عنها بلاءها، ويرزقها شباباً صادقين يجددوا لها أمر دينها ودنياها .. في أمان الله.

 

 

 

عبدالله بن علي الحماطي


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

26 سبتمبر – يوم من أيام الله

102 عام على مذبحة قافلة الحجاج اليمانية

ملحمة بليفنا .. وصمود الأبطال