إيهاً أيها العراقي..!
إيهاً أيها العراقي..!
فطن الناس قديماً إلى أن السمع نافذةٌ إلى صميم القلب، وسبيلٌ إلى أصل
الاعتقاد، فـبه تُغيّر الأفكار وتقلب المبادئ ويُسَيطَر على الإنسان؛ فتغيرت لذلك صيغ
التعبير وتنوعت، فمن كلام وشعرٍ وخطابة، وكل واحدة منها اندرج تحتها أقسام عدة، وكلها
تصب في نفس الغرض؛ النفاذ إلى القلب بأمرٍ أو شرحٍ أو غرضٍ أو تهييجٍ أو تصويب ..
وهو الأمر الذي لم يغب عن مخيلة المستشرقين -طليعة المستعمر الغربي- وخواطر
المستغربين -أذناب المستعمر الغربي بيننا-، فتعددت رسائلهم إلينا وتنوعت خطاباتهم في
تعظيم الغربي وخصاله، وما ذلك إلا لتصغيرنا في أنفسنا، وتحقيرنا في أعيننا،
فنصير أذل من أن ننفض غبار المهانة ونثور، ونكسر قيود التبعية ونصول ..
ومن أشهر تلك الرسائل التي تم "برمجة" عقولنا اللاوعية بها هي
أن الرجل الغربي المتحضر يقرأ في السنة كذا وكذا كتاب، فهو مثقّفٌ مطّلعٌ، قاده
علمه واطلاعه إلى هذا الرقي الفاتن والحضارة الجذابة.
ثم خرجت الدراسات الكاذبة والأبحاث الغربية المنحازة لتدعم هذه الفرضية، وبناء
عليها أصبحنا نتمرغ في مازوخية قذرة، يجلد أحدنا قومه وبني جلدته، ويزدري علماءه وفضلاءه، تجد أحدهم يقول شامتاً بأمته (أمة اقرأ لا تقرأ)، وآخر محتقِراً لأخوته ومعرّضاً بالعلم الشرعي (الغرب وصلوا
القمر وأنتم عادكم مع الكتب الصفراء القديمة!)، وأحسنهم حالاً يحاول استنهاض الهمم بترديد مخرجات تلك الدراسات
الكاذبة بأن شعب الدولة الغربية الفلانية بمفردها يقرؤون من الكتب أكثر مما تقرؤه
الدول العربية جمعاء..!
وليت شعري أيعي هؤلاء البلهاء أنهم مطية يركبها الغربي ليُشبِع غروره
ونرجسيته؟ ومنديلاً يمسح به قذارته؟ وأداةً يوطّد بها في النفوس سطوته ؟
من عاداتي "السيئة" التي ابتُليت بها أثناء إقامتي في ماليزيا ثم الولايات المتحدة الأمريكية ثم كندا أنني كلما رأيت أحدهم في القطار أو الباص أو مقاعد الانتظار يمسك كتاباً ما ليقرأه؛ فإنني أبذل قصارى جهدي متطفلاً محاولاً قراءة عنوان الكتاب على الغلاف، فإما أن أفهم الاسم فأبحث عن الكتاب مباشرة في الإنترنت، أو أترجم العنوان إن كانت المصطلحات جديدة علي ثم أبحث عن الكتاب لأعرف ماهيته ..
وأقسم لكم بالله العظيم أن 95% من الكتب (أو أكثر) التي بحثت عنها
كانت كتب تافهة سمجة لا فائدة ترتجى فيها أو علم يؤخذ منها، أغلبها روايات معاصرة لذوي
الذوق المنخفض، وكتب الأبراج وغيرها من التفاهات، أما الكتب العلمية والثقافية فمن
أذكر أني رأيتهم يقرؤونها كانوا لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، وعلى رأسهم الباحث عن
الحقيقة ستيف بن زئبق الذي التقيت به في تكساس بالولايات المتحدة وحكيت قصته في
كتابي (وجد الخاطر) أسأل الله يهديه.
فتخيل يا قارئي العزيز أنهم يصفون الغربي بالثقافة وسعة الاطلاع ويزدروننا
أمامه لهذه الكتب التافهة التي لا طائل منها إلا تضييع الوقت وإعشاء البصر!
والله وبالله وتالله أن المسلم العامي قليل العلم في بلادنا لديه من
الثقافة المعاصرة والخلفية التاريخية وسعة الأفق وعمق التفكير أضعاف ما لدى الطبقة
الجامعية الغربية فوق المتوسطة، والله على ما أقو ل شهيد!
سنين ونحن نُخدع بتلك الصور التي تُلتقط في القطار أو الباص والناس
يمسكون كتباً يقرؤونها دون أن نعلم ماهية هذه الكتب أصلاً، بل إنني أذهب بعيداً
وأقول أني صرت أشك حتى بعفوية هذه الصور .. ولا أستبعد أنه أمرٌ دُبِر بليل!!
وليس اللوم على المستشرق القذر وما يبثه فينا، فهو في آخر الأمر يخدم
أمته التي جاء منها ليمكّن سيطرتها على عدو الغرب اللدود؛ المارد الإسلامي النائم
.. ولكن اللوم كل اللوم على المستغربين من قومنا، ولا أعني الملاحدة والعلمانيين
الزنادقة، فهولاء نتبرأ منهم كما تبرؤوا منا ومن تراثنا وثقافتنا = ولكني أعني
المستغربين الحمقى الذين لا يُطعن في صدق نواياهم لنهضة أمتهم لكنهم خُدعوا بدعاية
الغربي ورسائله فصدقوها، وصاروا سفراء له بيننا يمجدونه ويسبحون بحمده ببلاهة وقلة
وعي، وهم محسوبون في مجتمعاتنا على الطبقة المثقفة "الإسلامية"، فتجد
مثلاً أبعدهم صيتاً يسافر إلى اليابان لينتج برنامجه الرمضاني معنوناً ذلك الموسم
بـ"كوكب اليابان" فيكيل عليهم المدائح والتلميع وهو دون أن يشعر ينخر بخنجره
الكبرياء والعزة والفخر في نفوس ملايين المسلمين المتابعين له، وفي السنة التي
تليها يذهب لدول أوروبية أخرى فيصنع ما صنع من قبل في اليابان، وهكذا تعددت مواسم برنامجه
واختلفت بلدانه وتنوعت في أحشائنا طعناته ..... أقصد حلقاته!.
هذا وغيره أساؤوا من حيث أرادوا أن يحسنوا، انخدعوا فأضلونا بسذاجتهم،
وليتهم تعلموا قبل أن يتصدروا، وتثقفوا قبل أن ينظروا ويحللوا .. وهو نفسه (بلسانه)
تصدر للدعوة قبل 25 سنة بعد توبته بفترة بسيطة مباشرة دون أن يتعلم ويتثقف، وقد كان
قبلها مبتعثاً في أمريكا تاركاً للصلاة مدخناً فاسقاً .. والله المستعان
ولكن الحمدلله الذي هبانا من المنح الخفية في ثنايا المحن التي
عايشناها في آخر 10 سنوات ما كان حادياً لركب أمتنا لتحث سيرها وتجد في سعيها، فانتشرت
اليقظة في كثير من أهلها، فكم تقرحت قلوبنا من مجازر سوريا واليمن ومصر وفلسطين
وليبيا والسودان حتى يئسنا -أو كدنا- من نصر الله ومعيته، فهاهي الآن نعم الله تُزف
إلينا تترا من تمحيص لرجالنا وتذكير لقاصينا وفضح رؤوسنا، وتعرية لعدالة الغربي
المزعومة وكشف لحقيقة قوته وقوتنا بالطوفان المبارك، وإزالة القناع عن المستغربين بيننا
ممن يتكلمون بلساننا ويدينون بديننا، وانكباب كثير شبابنا على القرآن والسنة
والعلوم الشرعي دارسين وناظرين، ونشاط الدعوة عبر وسائل التواصل الاجتماعي
والمنصات المختلفة بعد أن تم تضييقها على الأرض؛ الأمر الذي أدى إلى نتائج تفوق
نتائج الدعوة على الأرض قديماً، وغيرها وغيرها من الأمور التي لو مكثت أعددها لسودّت
الصفحات والصفحات، والله غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
جلست يوماً في أحد أحواض الينابيع الحارة لأسترخي، وكان معي في نفس
الحوض سبعة علوج رومان (أربعة شبان شُقر أوكرانيون، واثنان كنديون أحدهما كان شيخاً
طاعناً -ولهذا الشيخ الطاعن وقفة أذكرها في مقالٍ آخر إن شاء الله)، ومعي أيضاً رجلاً
خمسينياً ذا ملامحٍ شرقيةٍ قُحّ، مشعر الجسد جداً إلا وجهه الذي كان أخضراً لكثرة
ما أمرّ الشفرة عليه، فتفرّست فيه وأيقنت أنه عراقي عربي أو كردي، وكان هذا
العراقي يحاول جاهداً التقرب إلى العلوج متودداً إليهم، يفتح الموضوع تلو الموضوع
ليتكلم معهم ويصطنع الابتسامات في وجوههم، وهم يقابلونه ببرود وشيء من التقزز من شرقيته
وشكله، ويجيبوه على مواضيع بالكلمة والكلمتين فقط لئلا يتوسع معهم ..
وأنا ساندٌ ظهري أمامهم أتأمل بصمت، والقهر يقطّع قلبي من هذا المنظر ..
أنظر إلى ملامح هذا العراقي الشرقية الأصيلة ثم ملامح العلوج الشُقر بجواره وأرجع بالتاريخ إلى الوراء يوم أن كانت بغداد حاضرة الدنيا وجوهرتها؛ لأتخيل هذا العراقي يسير بعمامته البهية وزيه الفخم في أسواق النخاسة باحثاً عن علجٍ يساعده في عمله أو أرضه أو شأن من شؤونه، فيرى في السوق من العلوج أضعاف من يتزلف إليهم الآن في الحوض الساخن لينظروا إليه ..
ومنتهى أمل هذا العلج أو ذاك أن يشتريهم من لا يُتعبهم ويضربهم ..
ثم تجد العلج الذي يريد أن يزيد من قيمته ويرفع سعره يتعلم من
المهارات ما يتزلف بها إلى سيده العربي المسلم، كتعلم اللغة العربية أو الإسلام أو
الحساب أو غيرها، وما ذلك إلا لإرضاء سيده العربي..!
إيهاً أيها العراقي .. والله لو كنا في سابق عهدنا لتزلفوا إليك أذلّاء
صاغرين..!
لكن بقاء الحال من المحال ..
(إِن يَمْسَسْكُمْ
قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ ۚ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا
بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ
ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)
أسأل الله أن يعيد للأمة الإسلامية عزها ومجدها .. قولوا آمين
في أمان الله
عبدالله بن علي الحماطي
تعليقات
إرسال تعليق